.................
طارق منور
...................
#رحلة الحروف الحلقة 11
في أمسية ذاك اليوم عاد عصام ادراجه إلى عين البيضاء وقد اصاب راسه ارتجاجا أعاد به تغيير كل النظرات النمطية التي رسخت في الاذهان عن القرى والمداشر، فلاشات اكتسبها من مسلسلات و حكايات خزعبلية، نظرة القفار الذي يعم المحيط بريح تهب لتدير اكياسا بلاستيكية وما فتئت تلاعبهم بين الفينة و الأخرى و جمع القرويين و قد نهشتهم البلادة وأتى عليهم الفقر وخشونة الطبع ومنظر ذلك الصبي الحافي النصف عاري الا صدارا مثقوبا يرتديه وقد علا صراخه أمام باب الكوخ... كلا والله لقد صحح عصام نظرته لهذا المحيط فالثقافة والعلم حاضرين الخلق سيد المتربعين لكن غابت عين الاهتمام ليس من المسؤول فقط بل من ذلك المتمدن الذي صنف القرويين من البداية دون أن يسمعهم يحاورهم يغوص في خوالجهم ورسم لهم صورة كاريكاتورية وزعت للاستهلاك في المدن.
احتار عصام وهو يسأل نفسه كيف لشاب مثل نور الدين كل فرص النجاح بعيدا تناديه تغريه بل و تترجاه، مهندس حاذق أدى التزامه تجاه الوطن، فرنسا تفتح اذرعها له بعيون خاله لكنه صم آذانه عن كل نداء وأبى الا ان يعود إلى دواره ورفع التحدي... تحدي ترقية محيط و سكب ما في جعبته من مدارك في بناء الفكر و محاربة الأمية اي سحر أصابه للرجوع اي جاذبية أتت به؟ وانت يا استاذ مازلت في كرتونك لكنك بدأت الصياح نثر الشكاوى وإبداء التذمر هنا و هناك والله انك لتظهر أمام هذا نور الدين!!!! ظهور جلف صحراء أمام فيل.
دخل عصام على امه سلم عليها وانتقل لغرفته فاستلقى ينظر للسقف في هذه الاثناء اطل عليه أسامة ذلك الأخ المتمرد ذو الطبع العسكري : هاه.... ماذا فعلت يا استاذ القرى هههه؟؟ كان يريد استفزاز أخيه لكن عصام لم يكن ليقع في فخ أخيه واجاب هو أيضا بتهكم : فعلت كل خير يا حضرات.. هههه ،ثار فيه أسامة و صاح أظنك تتهكم ايها السمين؟ ضحك عصام : لا والله يا اسامة، لكن أسامة قفز عليه يصارعه فوق سريره... وعصام يصيح ويقول : ساجثم عليك يا ضابط الخردة... وسط هذا العراك الأخوي اقتحم الغرفة سي منور بعد أن سمع صوت عصام فعلم انه عاد من رحلة الضلعة، وما ان دخل الرجل حتى سكن العراك واعتدلت الاجساد، أجساد الأخوين وقام يسلما على ابيهما فقال بشيء من المزاح : ماذا يا اسامة؟ أتريد القضاء على معلم العائلة؟ الا ترى أن المدد قد قدم؟ انسيت ان أباك أيضا معلم؟؟ ضحك أسامة على استحياء والتفت ينظر إلى عصام الذي اضحكه هذا الرد من معلم متقاعد جاء ليدافع عنه.
جلس سي منور مقابلا ابنيه واردف قائلا : هاه... هات ما في جعبتك يا عصام كيف كانت رحلتك يا عصام؟ عصام : و الله يا ابت اني اغوص في حيرة !!! ضحك سي منور ورد : ولم الحيرة يا عصام؟ محتار منك لأنك لم تطلعني على ما يدور في الضلعة و محتار أيضا لما رايته يدور هناك، سي منور : هههه.. قل لي ما رأيت ثم ارد لافسر لك الأمر، عصام : رأيت عمق الطيبة و نقاء السريرة، رأيت إرادة للتغيير وإصرارا لنحت الصخر ولو بظفر... سي منور : لقد تعمدت عدم الرد اماطة اللثام عن تفاصيل القرية مسبقا فقد اردتك ان تكتشف بعينك أولا و تسمع باذنك في قلب المكان حتى تحكم بنفسك دون مؤثر هذا من جهة، و من جهة أخرى أردت أن تتعلم فن التواصل مع الناس وان تسمع كثيرا.. تسمع كثيرا قد تكون خزعبلات تفاهات قد تكون يوميات، معاناة قد تكون احلاما امنيات و هذه أول خطوة يجب أن يقوم بها أي معلم الاستماع.. الاستماع ثم الاستماع وليس فقط لتلميذه بل من محيطه مديره أصحابه اولياؤه ومن يعيشون في بيئته فأنت يا عصام كخزان السد يتجمع في الماء من كل المنابع ثم يقوم هو... هو بتوزيعه بقدر محسوب.
كان عصام يستمع هو واسامة لابيهما وقد راو والدهم يتحدث باحساس فياض حتى أنهما تاها تيهان متابع لفلم رومنسي، أسامة الذي اندهش لحمية ابيه وهو يشرح لعصام فقاطعه بلا إذن : ابي... ابي ا تحب التدريس؟؟ هنا انقطع صوت سي منور ونظر لاسامة باستحياء فلم يكن ينتظر المقاطعة ولم يكن ينتظر ضربة في الوتر الحساس فرد والتنهيدة تسبق شفتيه : هيييييه يا اسامة يا ولدي ان التعليم عندي كعمل ذاك الفخارجي الذي يشكل من كتلة الطين جرة تسبي الانظار او صحنا يوضع للنبلاء والأخيار فهكذا انا المعلم يا ولدي أعجن فكر تلميذي و اشكله فانتج المهندس والطبيب الرائد واللبيب ههههه، ثم أدار إلى عصام : وكيف رأيت تلاميذك؟ عصام : اي تلاميذ يا ابتي؟؟؟ الحكاية و ما فيها ست تلاميذ و ربما اقل فالامية و هجرة المدارس هي السيدة هناك، سي منور : اعلم ذلك لكنهم لو وجدوا معلما حاذقا فسيشدهم للدراسة بل اكثر من هذا ستكتظ المدرسة بهم بدل ممارسة الرعي والعمل كخماسين في الأراضي.. عصام : ما قصدك يا ابي؟ سادرس من أتى إلى المدرسة واحاول إعطائه المعلومة كما هنا في المدينة، سي منور : غبي.. إن اكتفيت بهذا العمل فالغبي انت!!! احمر وجه عصام و بانت عليه علامات الغضب فوضع سي منور يده على كتف ابنه و رد : يا عصام يجب عليك استباق الأمر، عصام :، كيف؟؟؟ سي منور : عملك سيكون اكثر خارج المدرسة، عصام : خارج المدرسة!!! سي منور : نعم... ستذهب لأولياء التلاميذ تحدثهم. تحدث التلاميذ و تقنعهم بالرجوع لمقاعد الدراسة، عصام : لكني قد افشل في ذلك، سي منور : ان كنت مصمما واضفيت دهاءا في اسلوبك فستنجح لاني اعرف قدراتك و ستجد نور الدين ليساعدك فهو سندك في هذه المهمة... المهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة.. ارتح الان يا بني فمازالت العطلة طويلة لكن فكر في طريقة لجلب هؤلاء الصغار للدراسة.
انتشر خبر قدوم معلم جديد لدوار البلالطة كالنار في الهشيم فصار القاصي و الداني يسأل نورالدين عن هذا الوافد الشاب عن أصله و فصله، وهاهو نور الدين يجوب في السوق الاسبوعية فاليوم يوم الأربعاء والسوق مزدحم وبينما هو يلاحظ السلع هنا وهناك حتى ناداه الحاج الحسين البلوطي ( صاحب احسن الأراضي الزراعية واكبر قطيع غنم في المنطقة رجل ستيني بدا من الصفر فكون ثروة من تجارة الغنم وزراعة القمح شهم صنديد لكن عيبه الأكبر انه امي ولا يؤمن بشيء اسمه العلم لا له ولا لأولاده فقد قطعهم كلهم عن الدراسة)...
طارق منور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق