.................
حشاني زغيدي
.............
خلق التواضع
ما يحزنك في الحياة صور الحقائق المقلوبة ، و الأخلاق المهضومة ، و الصور المشوهة ، فترتبط العادات بحقائق الدين ، فتصبح لصيقة له ، و هي مجرد موروث فيه المحمود و المذموم ، لهذا وجب التبصر من خلال استحضار الفهم الصحيح ، كضابط تفرقة ، فلا نلحق بالدين ما ليس منه ، فالمؤسف وجدنا الكثير من الإتباع مجرد صور مشوهة ضارة لمنظومة القيم السامية في ديننا .
و من القيم التي هضمنا حقها و ألحقنا بها الكثير من المفاهيم المغلوطة حلق التواضع ، و هو من الأخلاق السامية في ديننا الحنيف .فقد ألبسناه للأسف من الصفات السلبية الكثير ، فترى الرجل مكسور الظهر بين الناس ، يدلي الرأس منحيا و الإنحاء و الانكسار و التدلل ، سلوكيات لا تمنح إلا لصاحب الحق في الخلق و الإنشاء ، فالمرء يتدلل لله خوفا و طمعا ، و ترى الرجل يتظاهر بحياة التقتير و الشح في المظاهر الحياتية ، ليظهر في عيون الناس متواضعا ، و الأمر خلاف ذلك .
ما يتغافل عنه هؤلاء أن التواضع صفة الناجحين و المتميزين ،فترى المتواضعين شامة بين الناس في الأخلاق ، فهم قمة في رقي المعاملة ، يكفي هؤلاء رسول الله قدوة في التأسي بخلق التواضع فقد كان مثالا تطبيقي وجدته في كتاب الرحيق المختوم عند ذكر تواضع النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة : كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.انتهى.
و ما يتغافل عنه في المعاملة أن صاحب خلق التواضع تراه بين الناس لا تميز عن الناس برفعة الألقاب أو الرتب أو المسميات ، بل هو فرد من المجتمع ، لا تميزه أناقة ثوبه أو وسامه خلقته أن يكون مبسطا بين الناس ، تشع في وجهه إشراقة تملأ حضوره حبا و رقة و جمالا في المعاملة ، فيسكن حبه عند الجميع . و إذا جلس لا يتميز عن حضوره ، فهو بين الناس واحد من القوم ، و تلك ميزة فريدة للمتواضعين ، لهم أن يتعلموا ذلك
من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمَّ تواضعه ، لا يغريه المكان أو رِفْعَة الأقدار وعلوِّ المنزلة ، فتراه خافضا جناحه للمؤمنين ويجلس فالغريب لا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ فجلوسه حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم الرسول القائد ، حتى يبادر بالسؤال عنه، روى أبو داود في سننه عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه...)) (1) .
في أيامنا أصبح التفيقه و ادعاء المعرفة سمة عند الشباب المتسرع ، فيظن الواحد منهم أنه أعلم الناس و أعرف الناس في كل الأمور ، تجده الفهامة بين القوم و على دراية تامة وأنّ لا أحد بوسعه يجاريه ، و هذه ليست من أخلاق التواضع ، فالمتواضع لا يستحي أن يقول لا أعرف في الأمور التي ليست من اختصاصه ، فمن التواضع أن تقول لا أعلم ، لا أعرف تلك المسألة ، غيري أقدر على فهمنا فليس عيبا أبدا أن يقول أحدهم لا أعرف في المواضيع التي لا يملك فيها الدراية الكافية و الكفاءة في التسيير ، و بذلك يدركون من الفضل ما لا يدركوه المتكبرون المتعالون أ أن أمثالهم لا يدركون محبة الغير ، فالمتواضع يعينه كسب قلب و مودة شخص ، و هو ما يسميه أهل التربية التواصل الإيجابي الفعّال.
و أختم كعادتي بنثر التبر على مقالي بأبيات من الشعر ، تطوف بنا في عالم يحياه المتواضعون يقتبسون الأثر من هدي الحبيب المصطفى ، يسيرون بين الناس كالأقمار برفعة أخلاقهم .
يقول الشاعر :
يا جاعلًا سنن النَّبيِّ شعاره ودثاره
متمسِّكًا بحديثه متتبِّعًا أخباره
سنن الشَّريعة خذ بها متوسِّمًا آثاره
وكذا الطَّريقة فاقتبس في سبلها أنواره
قد كان يقري ضيفه كرمًا ويحفظ جاره
ويجالس المسكين يؤثر قربه وجواره
الفقر كان رداءه والجوع كان شعاره
يلقى بغرَّة ضاحك مـــــســــــتـــــــبـــــــشــــــــــــرًا زوَّاره
بسط الرِّداء كرامةً لكريم قوم زاره
ما كان مختالًا ولا مرحًا يجرُّ إزاره
قد كان يركب بالرَّديـف مِن الخضوع حماره
مِن مِهْنَة هو أو صلاةٍ ليله ونهاره
فتراه يحلب شاة مَنْـزِلِه ويوقد ناره
ما زال كهف مهاجريـه ومكرمًا أنصاره
برًّا بمحسنهم مقيـ ـلًا للمسيء عثاره
يهب الذي تحوي يدا ه لطالبٍ إيثاره
زكَّى عن الدُّنْيا الدنــيَّة ربُّه مقداره
جعل الإله صلاته أبدًا عليه نثه
فاختر مِن الأخلاق ما كان الرَّسول اختاره
لتعد سنيًّا وتوشك أن تبوَّأ داره
الأستاذ حشاني زغيدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق