الخميس، 1 ديسمبر 2022

 ................

طارق منور

.................



#البركة بين ضفتين
الحلقة 87
الغرفة مظلمة و مبروكة المسكينة قد وضعت على طاولة جهاز اشعة الرنين المغناطيسي....و جيزال تضبط دماغها و تضبط ايضا الجهاز الذي سيقوم بالاشعة ...ثم تبدأ بالتصوير لكل المقاطع ...اما العقباوي فلم يصبر ان يبقى في مكتبه بل بقي وراء واجهة زجاجية لغرفة الاشعة يرى مريضته فاقدة للوعي ...برىيئة الوجه سمحة الملامح وشعرها منسدل كأنه خيوط من حرير ...صور المقاطع خرجت في الشاشة امام العقباوي الذي كان بصحبة اندريا ...كان ينظر ...يتمعن ....في صمت يبعث للتوتر خاصة من جهة اندريا التي لم تستطع الصبر و نطقت لعل الدكتور يشفي غليلها : طمني يا دكتور !! ما الامر ؟!!! .....تنهد العقباوي ورد وهو ايضا متوتر ..: الخبر المفرح أنه ورم حميد و ليس خبيث ... فابتهجت اندريا وقالت : شكرا للرب على هذه النتبجة ....لكن احسست انك ستقول خبرا ٱخر ...يبدو من ملامح وجهك انه ليس مفرح ....العقباوي : بالفعل ....الورم نعم...حميد لكنه حساس و دقيق ...انه ورم يسمى ورم قحفي بلعومي ...يتجمع في الغدة النخامية و يطوقها وهي منطقة جد حساسة في الدماغ ....وعلى ما يبدو في الصور المقطعية ان حجمه معتبر ..هلعت اندريا وردت وقد اتت عليها الوساوس : يا للهول !!! ماذا يعني هذا يا دكتور !! هل ستموت ؟؟ ...امعن فيها الدكتور بحدة : لست انا من يحدد الموت من الحياة يا سيدتي ...انا هنا لأعالج وافعل كل ما في وسعي لانقاذها ...انا اقول ان حالتها حرجة ولن يكون التدخل الجراحي بالأمر الهين.
لم يكن العقباوي ليكشف اوراق خطته لاندريا ...فطول حياته كان يعمل في سرية وكتمان حتى لا يؤثر على اهل المريض و يحبط معنوياتهم ...وبينما هو في مد و جزر مع السيدة البرازيلية حتى اقتحم العلمي وزوجته المكان محدثين فوضى كسرت هدوء المكان ...فقد صاح العلمي : ابنتي ...اين هي ابنتي ...اين هي ابنتي ...كان ينظر ويوجه كلامه لاندريا وهي تهدىء من روعه وتقول : اهدأ يا سيدي ...ابنتك بخير لا نقلق ستراها الٱن ..دعني اعرفك على الجراح الدكتور مارك العقباوي ...كان العلمي غير ٱبه بكل العالم ...لهذا صافحه و هو يكرر تلك الجملة حتى امتعض منه العقباوي وقال : ألم تقل لك السيدة ..إهدأ...فرجاء إهدأ ...ثم امسكه من يده وقربه للواجهة الزجاجية وقال : تريد رؤية ابنتك ...هاهي ابنتك ترقد هناك ...فنظر العلمي بلهفة للجهة المقابلة ...ليرى ابنته يشع بياض بشرتها وهي مستلقية على طاولة الاشعة مغمضة العينين فاجهش الشيخ المسكين بالبكاء ...اما فتيحة سيدة الغطرسة و التجبر ...هرولت هي أيضا فلما رأت ابنتها ...هالها منظرها فصارت تتمسح بالواجهة الزجاجية تنتحب ودموعها تسيل تباعا : أنا من ظلمك يا بنيتي فسامحيني ..ارجوووكي ...سامحيييني ارجوووكي ...لقد هجرتك الى بلاد غريبة ولم أسال عليك....ليتها اصابتني ولم تصبك يا بنيتي ....كان عويلا ...تدمى له القلوب و تنفطر له الأنفس ...العقباوي جاب من مستشفى لأخرى ...حضر مواقفا و مواقفا لكنه لم يزل يذكر مواقف الجزائريات والحزائريين الذين ينجرفون مع احاسيسهم و لا يبخلون على مريضهم ...انه دفء الوصال و زخم الحنان ...حتى ان عنتريات فتيحة و نفحات التجبر انكسرت شوكتها بعد ان طغى شوقها ...شوق ام ولو بالتبني ...حضنت ...دندنت ..و دوحت لصغيرتها ...لو تراها اليوم في تلك اللحظة ستكذب عينك حتما بعد ان تتذكر اول موقف حين تجاهلت درداغو و صدته ....يوم ركبت رأسها وغيرت هوية مبروكة ...يوم انقلبت عليها وعايرتها بيتمها ...يوم طردت اختها مباركة بتعالي كبير وغطرسة .
صحيح حين تكون المرأة أما.. تهوي كل أسوارها العالية و تتضعضع كل حصونها المنيعة امام فلذة كبدها ....يسقط كبرياءها وتختنق عزتها ....فانظرو كيف جثت فتيحة على ركبها وهي مازالت تطل على الزجاج وتبكي حال ابنتها التي لاتدري هل ستخرج حية من هنا ام ستحمل على الواح الى قبرها .
لسوء حظه ...كان على العقباوي تسير الأزمة على جبهات كثيرة ....جبهة مبروكة و حساسية الورم الذي يتوجب ان يتعامل معه الجراح بدقة عالية ...جبهة والديها وكيف يجب احتواء حزنهما ...والجبهة التي هي الأعقد ....هي مباركة ...كيف سينقل لها حضور اختها ...لكن كيف حضرت وفي اي حالة !!!
ترك الرجل جيزال وسكريترته مع اندريا ..جيروم يواسون العلمي و زوجته وانتقل الى مكتبه حيث اتصل بمستشفى لافايات بمونبلييه ...محاولا التحدث الى مباركة ...لحسن حظه انها خرجت لتوها من غرفة العمليات...اين تمت عملية استصال ورم .....استغرق منها ومن الفريق خمس ساعات متتالية ....العقباوي : الووو ..مباركة !!! كيف الحال عندك ؟؟ مباركة : الحمد لله يا أستاذ ...مرهقون بعض الشيء لكن ...الامور تسير في الطريق الصحيح ....لاول مرة اتلقى منك اتصال منذ ثلاث سنوات عمل معك ....ماذا هناك يا أستاذ ...؟ العقباوي : لم ارد أن أخلط أوراقكم ...لكن الصدى يصلني من الزملاء في مختلف المستشفيات ...كان طيبا ...والكل تابع روبرتاج TF1حول حالة مارغريت الشابة التي نجح مشرطك في اعادتها لحياة طبيعية .... مباركة: انت تبالغ يا استاذ ....لم اقم سوى بواجبي ...العقباوي : يا عيني على النواضع ههههه.. .اسمعيني ...هل يمكن ان تلتحقي بنا اليوم هنا في ياريس ؟ ...مباركة : اليوم !!! مستحيل !!! انت تعلم ان الحالة التي اكملناهها تحتاج فترة مراقبة على الاقل 24 ساعة ...فقاطعها العقباوي ...: مباركة كلفي بيار او نتالي بنيايتك هناك...الامر مهم هنا و يحتاج حضورك ...تعجبت مباركة وقالت مستغربة : ألهذا الحد انا مهمة ...هل لك ان تعطيني فكرة غن الموضوع ...فثارت ثائرة الأستاذ ورد بتشنج كبير : هل سنبقى نلوك في الكلام الفارغ والاجوف ...ام تحملين حالك وتأتين في اقرب قطار !!! ... أحست مباركة انها لم تتجاوب مع مطلب استاذها فاعتذرت: انا ٱسفة يا أستاذ ...سأحاول الحجز في اول قطار الى باريس ....اعطت التوصيات لناتالي وبيار حول ما بقي من عمل في مستشفى .. لافايات و هرولت الى محطة القطار علها تجد رحلة موعدها وشيك حيث كانت الساعة الخامسة والنصف ...لسوء حظها الرحلة الأخيرة كانت على الساعة السابعة مساءا .
لم تدر المسكينة ان ثلاث ساعات تفصلها عن نصفها الٱخر بينما عكف العقباوي على فحص صور الاشعة وتحديد طريقة التعامل مع هذا الورم ...فالورم القحفي البلعمي كان يستأصل عن طريق ادوات تدخل عن طريق منخار الأنف والتوغل حتى جهة الغدة النخامية ....لكن أحدثت طريقة جديدة تتمثل في ان يجرى ثقبا علي قحافة الجمجمة من الوراء باقل من سنتيمتر و اقحام اداة طويلة ورقيقة تصل الى حد الورم و تشفط ما بداخل الورم ....طريقة حديثة نعم لكن ...هل من يد حذقة تقوم بهذه المهمة؟ ....لحسن الحظ انه تلقى تكوينا خاصا عليها في معهد ميشيغان للاورام بامريكا و درب طلابا قلائل على هذه الطريقة...فهل ستكون مباركة هي من يقوم بها ؟!!! ..ام سيتولى هو العملية ...نظرا لحساسية الحالة ....هاجس كبير جثم على فكر الرجل ...بين بركة مريضة على شفى الموت ...وبركة تنقذ الأرواح ولم يمت فيها الأمل لعناق بركتها المفقودة ....يتبع
طارق منور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق