الخميس، 29 أبريل 2021

 ...............

جمال الطرودي

................



**.الكُصَان*
ونحن جالسين في المقهى إذ غيّمت السماء و اخضوضرت الأرض بالبزّات الخضراء و السيارات بمشهد لم نشهد مثله حتى في أيام الدكتاتور.
.
طوّافات تحوّم فوق رؤوسنا مباشرة تشهر أسلحتها على سكان المدينة العزّل ذكّرني بالمشهد الافتتاحي من فيلم "القيامة الآن" و أقمار صناعية في الفضاء مركز التأبير عندها هذه النقطة في الصحراء و أسراب من المسيّرات أي الدرونات تطير بلا طيّار فوق أسطح المنازل المتهالكة كما يطير النحل بين الأزهار. تكشف ما وراء الجدران بعيون تعمل بالأشعة تحت الحمراء و مسلّحة برشّاشات الليزر
و هذه الفرق من مختلف الأسلاك الأمنيّة المدجّجة بالسّلاح، كأنّها خرجت من حرب النّجوم الذي تفصل موقع تصويره عن المدينة مسافة لا تتجاوز ثلاثة عشرة كيملومتر، يبحثون عن حصان.
أي نعم حصان! حصان من لحم و دم. ليس مجنّحا . يأكل بفمه و يبعّر من شرجه.
حصان ضاع في صحراء نفطة. كان يمتطيه مولاه في رحلة صيد الحبارى. لمّا ثارت عاصفة أسقطته من على صهوته و شتّت حاشيته.
قلنا و نحن جالسين في المقهى تحت فوهات البنادق:
-كلّ هذا لأجل حصان!
فكان الرّد بكلام عربي فيه لكنة غربيّة:
- هل تأْرفون سمن هازا الكُصَان؟"
-صارْ هو كُصَان ماشو حصان!
تبسّم و كأنّه فهم قصدنا ثمّ واصل:
- سبؤون مليون دولار !
.
في لحظة، كل من في المقهى فتح الآلة الحاسبة في جوّاله و قام بالتحويل إلى الدينار حيث أن الدولار 1 $يساوي 2،74 دينارا تونسيا.د.ت. أو TND بالرمز العالمي
فوجد
191،8مليون .د.ت
يعني 191،8 مليار من المليمات
-هيّا أنتم حسبتم، حسبتم، أكملوا حساب ثمن الواحة التي مساحتها 800 هكتار باعتبار كل هكتار فيه 100 نخلة. و النخلة بمليون ملّيم أي الف د.ت، تكلّم سيدي.
بعد الحساب:
-سيدي 80 مليون دينار أي 80مليار من المليمات. أمّا أنت سيدي لم تكن تتجاوز معنا عندما كنّا تلاميذك في المدرسة 50 مليون ملّيم. وهو المقدار الأقصى للقرض الذي يمكن أن يحصل عليه موظّف.
- الحياة مدرسة يتعلّم منها الجميع .
- نعم سيّدي، و هو كذلك. ما أقسى مدرسة الحياة!
علّق القهواجي:
كل النخيل الذي حولنا لايساوي نصف كصان! إذن مقهاي بطاولاته و كراسيه لا يعادل حتى خصية من خصيتيه!
انقشع الغيم لمّا وجدوا الكصان في زريبة الكُنَيْنِيّ يسافد فرس الكرّيطة. اقتادوا الكُنَيْنَيّ إلى المخفر.
سأله المحقّق عن كيفيّة حصوله على الكصان. فأجاب أنّه وجده هاملا في البور، بين الواحة و شط الجريد، لمّا كان عائدا من زاوية الولي الصالح سيدي حسن عيّاد بعد أن أوصل نساء و أطفالا للزيارة فظنّ أن صاحبه تخلّص منه كما تخلّص أهل البلاد من دجاجهم لمّا انتشرت انفلونزا الطيور و أطلقوها في البور.
لم يقتنع المحقّق بأنّ الكنيني أمسك بهذا الحصان المجنّح، القويّ، الجميل، الرشيق، يكاد يطير لو لم يمسك اثنان من ساسة الخيول كلّ واحد في جهة بحبل قيادة من الجلد الرفيع مشدود إلى الرسن. يسير في شوارع نفطة بين الخبب و العدو في سيره خفقان صقر محوّم. كلّما مرّ بقوم تبعه منهم خلق كثير يسلب أبصارهم بانعكاس أشعة الشمس على أدهم، أغرّ، محجّل مقوّس القسمات مربّع الكفل في رقبته طول كأنّ جسمه قد صبّ من معدن نيزك.
لم يسمع غير هرقل في الحكايات قد أمسك بيقاس جدّه الأوّل.
حتى مكامي صاحب الكصان لم يصدّق أنّ الذي أمامه تمكّن من الكصان و قاده الى زريبته.
طلب المحقّق من الكنيني أن يذكر بالتدقيق طريقة القبض على الحصان.
ذكر أنّه أمسك به لمّا اقترب من الفرس و جعل يسايرها و يراودها عن نفسها. انتظر حتى اصطبرّ قضيبه عندئذ ألقى في رقباه أنشوطة و ربطه خلف العربة التي كاد يقلبها فشدّه إلى التيمون بجانب الفرس فانصاع ذلولا لا يثير الغبار حتى وصل إلى المنزل دخل معها إلى مخدعها . أعجبه ليجعل منه جادورا يجرّ الكرّيطة فهو منذ مدّة يزمع تعويضها ببغل.
-كصان مثل هذا أصيل تجعل منه جادورا لجرّ العربات. زايد الجادور يبقى جادور حتى لو كان يلبس سرج مذهّب.
ضحك مكامي صاحب الكصان و قال :
-هازا كصان آربي أصيل نادر. نكاف آليه من هبّة النسيم. لكد فكص البيطري الفرس لنطمئنّ آلى صهّة الكصان . هي سليمة. و هي من أصل نكيّ لكنّ الزّمن غرّر بها. ثمّ واصل ،سيّد كنيني، آليك دفؤ 30الف$ سمن الكشّة.
تدخّل المحقق و فسّر للكنينيّ : -الكشّة يقصد بها القشّة ويطالبك بدفع 82،2 مليون مليم ثمنها .
الكنيني بأصبعه الوسطى:
- هاو فيه! يأكل كصانه كشّي و ويحب ندفعله الفلوس. قلّه قال لك في الليل ولّي تو نعطيك بالة قش كان تحب.
-مازا كال؟
- قال لك تعال في الليل تو نعطيك برشة قش.
احمرّ وجه المكامي الأشقر المنمّش ثمّ انفجر ضاحكا و معه البيطري.
فسّر البيطري للمحقّق :
- القشة يا خوي في ميدان تربية الخيول الأصيلة و النادرة. يطول عمرك. يقصد بها التلقيحة. و هي يُرْعَة المني التي يقزفها الكصان في مهبل الفرس عند السفاد. و في الحقيقة نثيره بفرس حقيقية و نقرّبه إلى فرس دمية يقذف في وعائها سائله المنوي نوزّعه على خمسين كشّة. يسمّونها كشّة لأنّه يتمّ وزعها داخل فرج الأنثى بآلة بيطرية طويلة تصل إلى الرّحم حيث نلقّح البويضة مباشرة من خلال قصبة تشبه القشّة اللي نشرب بها الكازوز و العصائر .
- يزّي ، يزّي فهمنا. و المحقق يقول في نفسه " عيّفتنا في القازوز و الجّي"
أكمل المكامي:
-و هازا سمن كشّة وايد رخيص. بحيث نبيع اليُرْعة الواحدة في قارورة بين مائة و مائة و عشرين الف$ من غير ما سموّ الكصان يباشر الأنثى. هاي أوّل فرس يضاجعها سموّه منذ سنة . تصوّر أولاد الكصان تحصد جوايز بعشرات ملايين الدولارات في السّباكات. احنا رائينا آلة السيد كنينيّ المتوازعة لزلك آسبنا له الخمسين يرعة يرعة واحدة و بس.
- بالحرام، كون جاء عندي فلوس كان نعطيك حق اليرعات الكل على كلمة السيد كنيني بركة! ماشو آك الوجوه المقلّبة اللي تنادي لي يا كرارطي.
- ما بنكدر أكَلْ من هيك. إنت إندك حز كبير أنّه سموّه طويل العمر ما ياب كصان آخر عنده بمئتين مليون$.
- آااه! كلّ من في القاعة.
المحقّق:
- هاو أغلى من اللاعب مسّي هاذا!
و أمسك نفسه. فوضعه يفرض عليه واجب الحفاظ على هيبة الدولة و سؤددها و الحياد بين المتخاصمين أيضا. ثم التفت إلى الكنينيّ :
- هيّا سي الكنينيّ، باش تدفعلهم سوم البزكة اللّي كبّها الكصان متاعهم في كسّ الكرس متاعك و إلّا لا؟
- وش ع يولّي ها الكصان متاعهم؟ كان يحبّو تو نعبّيلهم سطل! يقبلوش نبيعها لهم بقشّها بسبعميات دينار خلّي نشري بغل سمح يجبد مليح الكرّيطة.
و هم كذلك رنّ هاتف المكامي فتح المكالمة ثمّ نطق:
- سموّه صائب الكصان يتنازل آلى الدّآوى و أيْزًا آلى جميهْ هكوكه في سفاد كصانه فرس المُدّآ آليه. و يطلب منّي إيطاء السيد الكنيني شهادة في إثبات نسب المهر اللّزي سوف يتولد كهديّة من سموّه للسيّد الكنينيّ. مع أخذ صورة تذكارية له مجانا في آدة اللي يهب يتصّور مآ كصان يدفأ عشرة آلاف$ .
ثمّ التفت إلى المحقّق و أضاف:
- رزكٌ بعثه الرّبّ إلى هازا الزّوّالي. بهازه الشهادة يُزْرُب سبؤمئة في ألف!
التفت المحقّق إلى الكنينيّ:
-هيّا تبيع الفرس متاعك؟
-بقدّاش؟
- بميات مليون !
- تحبّش تزيد معاها الكريطة
و هانك في أوقات الفراغ ولّي بوليس يكركر في الحصحاص.
آلّا أطّاي أا سي البعباص!
.
و منذ تلك الليلة صارت الفرس تنام في بيت النّوم و تتغذّى على الفستق و اللوز و البندق كما أوصى البيطريّ و تكرّم سموّه "ما بيصير أمّ مهر سموّ الكصان بتاكل هشيش!" .
أمّا هو و فرسته فصارا ينامان في الزّريبة المباركة و يتناولان الأرز بالفاكية قبل القشّ.
(جمال الطرودي/ تونس)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق