الخميس، 2 يوليو 2020

.............

المصطفى نجي وردي
..........



الحلقة التاسعة
الالتزام بالضوابط الصحية والغصة في القلب.

أتت جملة -أشياء تحت المجهر-كنغمة يصعب التخلص من صداها الرنان،تجاهلتها بوضعها في قالب محصور حددت معناه حسب هواها،وبصوت خافت كررت شفتاها-أشياء تحت المجهر..!؟-
نعم ،الظروف حاليا فرضت أن يكون كل شيء جاهزا في ضوء النهار،يخضع للبحث والتحليل تحت المجهر.
قالت نبيلة،فكورونا،وأنت الادرى-أصدرت حكما نافذا،لا يقبل الترافع والاستئناف،اكتساحها الشامل للعالم أحدث وقفة متأنية صففت خلالها أولويات على جميع المستويات،رفعت الغطاء عن المستور،تقر بالمناسب،تحمي المطيع،والعاصي يحصد الضرر.
وحتى تتجاهل نبيلة وتتفادى فك شفرة -أشياء تحت المجهر-أكثر فأكثر،قالت :لقد تكلفت عناء السفر،وسببت لك إزعاجا حين هاتفتك قصد استشارتك في اقتناء الأجهزة للمصحة.
بصراحة ،رأيت فيك الرجل المناسب لهذه المهمة بحكم مهنتك وخبرتك كطبيب.
بهذا لم تمنحه فرصة استيعاب الموقف،فأردفت:همي الوحيد الآن هو العودة إلى أرض الوطن،وكيف أستطيع لذلك سبيلا،ولا أحد يعلم ما تخفيه الأيام القادمة.
اجتاحته رغبة شديدة للرد،تضببت حول عينيه رؤية الأشياء،بحث عن وسيلة تخلصه من مأزقه.ربما كان يود سماع عزف آخر يفيض عشقا، ويسيل العبارات مدرارا.
ودون استئذان،آثر الجلوس مرة ثانية،وكله استماع وإنصات،كطالب يستوعب محاضرة،راهن أن تكون ضمن أسئلة امتحان.
لكن ما أفصحت عنه نبيلة ،جعله يرسم ابتسامة خفيفة على محياه،يتكلف وتجاوب مع المسموع.
رحب بفكرة المساعدة والإقدام على اقتناء الأجهزة الطبية،وربط الاتصال برئيس الشركة للتفاوض.
بيد أن الوباء كان سباقا لشن حرب ضروس،مست جميع الشرائح والجوانب الاقتصادية،المهيكلة وغير المهيكلة،وثمن قيمة البحث العلمي والتطور التكنولوجي،اللذين يعتبران شوكة العصر،والمعيار الحقيقي لقياس سقف وفعالية الدول الرائدة.
فهذه التطورات والتغيرات في حق المألوف والمعتاد،آن الأوان أن ينظر إليها بمنظور متبصر،يسعى الإيجابية والتغيير،وما يليق حيث الاستعداد لطرقات الكوارث والأوبئة،وتقلبات الزمن المفاجئة.
كل من موقعه،لنشر الوعي وإعلاء قيمة التعليم، لأولويته ومكانته،حيث الجيوش من المهندسين والأطباء والباحثين والعلماء،واكتساب القيم النبيلة وترسيخها،والانخراط الكلي في تقلد المسؤولية:أنا أنت وأنت أنا،في الظروف الاستثنائية،والأخذ بيد من يخشى القفز فوق العقبات،ويواجه بالمبررات،وتدفق الأعذار بلا اكتراث.
فالحياة لا تجزل للمحتاج والراكن عنها،وإنما تمنح من يمتطي سلما نحو العلى،جذوره في العمق تغلغلت وتحت الثرى تفرعت،فالنخيل في الطول قامات،والأعشاب بساط أحذية وحوافر للكائنات.
هنا تطرق لقيمة الأسرة ودورها في تهيئ التربة الصالحة،وإعدادها للنبتة قبل خروجها للوجود،وإحاطتها بالرعاية والعناية حتى يشتد عودها،تصمد في وجه الرياح العاتية،وفي وجه ضروب قساوة الزمن.
خرس لسان عمر برهة،حملق في السماء كأنه يستنجد حتى تحل عقدة لسانه،ويصدع بما يومر.
شعر إثرها بخلو المكان من الهواء،رفع عينيه إلى نبيلة،فرأى شغف الفضول يكتسي ساحة مقلتيها أكثر فأكثر،منحه جرعة زائدة،فشق طريق الحكي والحديث عن زمن ولى،زمن الطفولة البريئة،حيث وفاة الوالد وحرمانه من متكإ صلب،يكون دليله ومرشد في الحياة،فقد كان وعاء فياضا من الحب والحنان،لم يمهله المرض طويلا،فانتقل إلى دار البقاء،وحرمت شفتاه نطق بابا إلى الأبد منذ نعومة أظافره.
واستطرد عمر:ودعت ذكريات طفولتي حين تركنا منزلنا الجميل، وأمي لا تزال ترتدي اللون الابيض ،واشهر العدة في بدايتها،وتلك قصة أخرى..
فاحتضننا بيت خالي،الذي كنت أحظى عنده بمكانة خاصة،فقد كان مثلي الأعلى في الحياة،لا أفارقه ولا أبتعد عنه إلا في فترة ذهابه للعمل،أو للنوم.
وكنت أنتظر عطلة نهاية الأسبوع للخروج معا.
كأن صحوة قلقة دبت في كيانه،فاشتعلت بما ألهمها من حزمة مخزون وافر،من أحداث عاشها.
ضغط الزر وانطلق العداد يرقم الذكريات ويصففها صفا صفا.
كنا نذهب إلى شاطئ البحر،تستهويني الآن حتى الطريق المؤذية إليه،وما إن نقترب من مشارفه،حتى يستقبلنا بساط لجي،مغطى باللجين المصفى،يتجاوب وأشعة الشمس،تعيره جمالا وبهاء،وهي في أوج طبيعتها.
أنزل من السيارة،أركض صوبه بخطى تثقلها الرمال الساخنة،أشيد فوقها قصورا،أجعلها لوحة تطبيق ما أتعلمه في المدرسة،رسوم،تخطيط حروف، ترتيب جمل سرعان ما أرفس الكل برجلي حتى لا تبقى معالم الآثار قائمة. وكأن ما جادت به يداي،سيخضع للمراقبة من قبل الأستاذ.فأقفز للكرة،نتناوب أنا وخالي على تسجيل الأهداف،ثم نعمل على جمع الصدفات الفريدة.وعندما تشحب الشمس، وتقارب المغيب،نحمل أمتعتنا ولوازم البحر،ونقصد مقهى الشاطئ،يحضر لنا النادل ما وقع عليه اختيارنا في قائمة العصائر والحلويات .
نعود ليلا،أعانق أمي التي تكون دائما في انتظارنا،ولا يهدأ لها بال ،حتى تسمع صوت محرك السيارة.
أدخل مسرعا،أدفن رأسي الصغير في صدرها،أنتشي بعطرها المميز الفريد،فتصدني بلطف لأرتدي ملابسي بعد استحمام خفيف،تحملني بين ذراعيها لأنط كقطة صغيرة،وأندس في حجر جدي،أحكي له بتفصيل ممل،كيف قضيت يومي صحبة خالي،في لهو ومرح،وكيف كنت أسدد الأهداف القوية من بعيد،وكيف تمكنت من جمع أكبر حفنة من الصدفات المزركشة،مقارنة مع صدفات خالي العادية.
ابتسامة جدي الهادئة،تشجعني على الاستقاء من وحي الخيال،وأصيح بحماس مبالغ فيه، وكأن الحكمة بالصوت المرتفع،حتى أقنعه بأني البطل المغوار في الدار.
وكلما لمحت طيفا متجها صوبنا،ظننته خالي،ألتزم الصمت المطبق،حتى لا يفتضح امري،مستحضرا في ذهني دائما قول أمي-الكذب عمره قصير-فأتظاهر بملاعبة سبحة جدي بين أصابعي التي ألفت رؤيتها في يده وعباءته البيضاء تفوح منها رائحة المسك الزكية،تضيفه إجلالا وتقديرا ووقارا.
نبقى على حالنا حتى تقاطعنا جدتي،وتدعو للالتحاق بغرفة الأكل،نتناول وجبة العشاء في جو يتخلله حديث عن نشرة الأخبار،وارتفاع درجة الحرارة والرحلات السياحية للشواطئ والغابات والجبال...
بعدها،كل يمارس طقوسه الروتينية، بعد الانتهاء من الأكل استعداده للراحة والنوم.
حتى يبزغ فجر جديد،أفرد يوما بقيمة جديدة،شكلت منعطفا مختلفا،مس مسلك خطواتي الحياتية..
المصطفى نجي وردي (بقلمي) 02\7\2020
المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق