الخميس، 30 يوليو 2020


.............
احمد علي صدقي/المغرب
.............

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏‏خطوط‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏


المحفظة
جلس عند ناصية الشارع يسترجع أنفاسه بعد أن صدمه ما لقيه من خسارة وهو يفتح دكانه إذ وجد الجردان قد أفسدت كل سلعته التي دفع فيها الغالي والنفيس. كان وقع هذا الحدث على نفسه كوقع صخرة سقطت من فوق على ظهره. ردد المسكين والدموع نازلة من مآقيه.
لماذا تربطني بصخرة يأسي، يا نقصي؟ لماذا تنزلني عن صهوة فرسي يا بأسى كلما ركبته لأبارز بؤسي؟
بعد أن سمع المسكين قرار رفع الحجر الصحي الذي دام مدة ثلاثة اشهر فرح بعودته لدكانه الذي أفرغ فيه كل طاقته لإبرازه للوجود. لقد رتبه ونظمه وجعله دكانا مثاليا راقيا يجذب أنظار الزبناء من الشباب والشابات لما وضع فوق رفوفه من ثياب عصرية تستغري بألوانها وجودتها.
ثلاثة أشهر من البطالة والمكوث داخل المنزل، لم ترق له، خصوصا وهو شاب طموحاته كثيرة وكبيرة. لقد كره البطالة و ما تجره من ارذال على صاحبها فبعد طول مدة وهو يبحث عن عمل وبيده شهادات لم تغن عنه شيئا قرر اقتراض مبلغ مالي من البنك واستثماره في البيع والشراء؟ استأجر دكانا في الموقع الجديد الذي هيأته السلطات للشباب الذين كانوا يعرقلون السير بعرباتهم، و هيأه لبيع ثياب الشباب الفاخرة. لكن ما أن انتهى من تهيئه وأكمل ترتيبه حتى ظهرت جائحة كورونا وقررت السلطات الزام الحجر الصحي، فاضطر إلى إغلاقه وانتظار يومه المشهود الذي سيفتح فيه هذا الدكان ويستبدل بطاقته الشخصية التي بها كمهنة كلمة "بدون" وتكون له بطاقة مشرفة تحمل مهنة تاجر بدل مهنة "بدون" الخبيثة التي تحملها جل بطاقات الشباب و التي رافقته منذ ترك مقعده من المدرسة التي تخلى عنها بسبب عدم قدرته على اقتناء مستلزماتها. وهو جالس القرفصاء ورأسه بين كفيه مثقل لها. غارق في ويلاته. سابر لأغوار نفسه. يتجول داخل متاهات أفكاره إذ بامرأة تخرجه من عالمه الخيالي إلى عالم الواقع الذي يحاول نسيانه. قالت:
_ السلام عليكم. هل يمكنك يا ابني أن تدلني على طريق المقبرة؟ نظر إليها فإذا هي امرأة محجبة. طويلة، نحيفة، تحمل فوق ظهرها محفظة، تبدو ثقيلة عليها وبيدها فأس صغير. قال لها:
_ المقبرة بعيدة من هنا بعض الشيء. إنها توجد خارج القرية على بعد نصف كيلو تقريبا. قالت:
_ لا يهم. فقط دلني على الطريق. وجهها الجهة الصحيحة وجلس بعد أن كان قد وقف في بداية الحديث. انطلقت مسرعة و المحفظة تثقل ظهرها النحيف. اثار انتباهه بحة كلامها الغليظ إذ كانت تتكلم كرجل وتعجب من ارتداءها حذاء رجل. تساءل عن هذا، ثم قال لنفسه:
_ يا نفسي مالك لا تحتشمي. مالك فضولية؟ حب استطلاعك جعلني كثير التساؤل وما ظفرت من هذا الا عدم القبول من الجميع.
جلس هنيهة ثم دفعه فضوله لتقصي أمر هذه المرأة. لماذا تحمل هذه المحفظة الثقيلة وماذا بها؟ ولماذا بحة صوتها تضارع بحة رجل؟ ولماذا ترتدي حذاء رجل؟ ولماذا تسأل عن المقبرة؟ قفز من جلسته وتبعها من غير شعور منها... تشبت بحائط المقبرة واشرأب بعنقه ينظر يمنة ويسرة فإذا به يراها تحفر حفرة عميقة وتضع فيها المحفظة و تغطيها بالتراب ثم تضع فوق الحفرة بعض الاشواك والحشائش اليابسة لتخفيها عن الانظار ثم تنصرف. اختبأ حتى لا تراه، وفضوله يساءله:
_ ألا ترى أن وراء هذه المرأة غرابة و سر عجيب. فهي، لا محالة، تحاول أن تخفي شيئا خطيرا تخافه أن يجر عليها مصيبة. فلعلها ارتكبت سفاحا وقد اجهضت أو قتلت جنينها وتريد دفنه خلسة عن الأعين. فهذه المعاصي اصبحت شائعة بين الكثيرات من الشابات اللواتي ركبن شهوتهن او اللواتي ادركتهن العنوسة فلم يتقبل أحد الانفاق عليهن فامترسن مهنة الدعارة... ولكن أشك في هذا، فالمرأة رجل بنغمة كلامها وبارتدائها حذاء رجل. وما زادني يقينا أنها فعلا رجل، كيفية استعمالها للفأس عند الحفر للمحفظة...
لما غابت عن أنظاره قام وترك المكان خوفا من أن ترجع أو أن يجذب له موقفه هذا مصيبة من المصائب. لقد مرت ليلته كلها في تساؤل: هل الذي رآه وحدثه هو امرأة أم رجل؟ وماذا في تلك المحفظة؟ ولماذا دفنها في المقبرة؟
في الصباح الباكر خرج من منزله ومر بدكان اشترى منه صحيفته المفضلة وذهب الى المقهى وفكره كله منشغل بالمرأة-الرجل. وهو يطالع العناوين، أخذه عنوان عريض يقول:
_ القت الشرطة القبض على اللص الذي سرق دكان جوهري بالمدينة ولكن لم تعثر على المال. استوقفه هذا العنوان ودفعه فضوله مرة أخرى لربط هذا العنوان بتصرف المرأة-الرجل. فبدأ يتخيل أن المال الذي تبحث عنه الشرطة هو بالمحفظة. وأن المرأة-الرجل هي اللص. وأنه وحده يعرف هذا. ويعرف مكان المال. ترك الصحيفة وأدى واجب كأس القهوة وخرج متجها نحو المقبرة ليتأكد من تخميناته.
استخرج المحفظة من الأرض والخوف مستول عليه والعرق منصب من جبينه كما لم ينصب أبدا منه. حاول فتحها لم تفتح لما علق بقفلها من تراب. تلمسها ثم قرر حملها مغلقة هكذا الى منزله ثم يرى في أمرها. كان يجري وركبتاه ترتجف وقلبه يدق و يداه ترتعدان. مر من طريق فارغ حتى لا يراه أحد. وصل بسلام إلى منزله. استعد لفتح المحفظة وهو لا يدري ماذا بها؟ أجنين ميت أم مال؟ أزال التراب عن القفل ولما وجدها ستفتح استدار وجهه عنها ثم فتحها. لما فتحت عن أخرها بدأ يستدير وجهه نحوها ببطيء. تراءت له أكوام من الأوراق البنكية فقفز واقفا كأن حية ارادت لسعه. ابتعد عن المحفظة وأخذ ينظر إلى ما فيها. لقد افزعه ما رآه. ترك الكل ثم خرج. كان نبض قلبه مرتفعا الى حد أنه كان يظن أن من اقترب منه سيسمعه. قلب يخفق خفقان من هو هارب من وحش يطارده، وطرف حائر وذهن شارد بين افكار سلبية وأخر إيجابية حتى لم يعد يعرف نفسه...
تسكع في ازقة القرية لساعات حتى جمعت الشمس خيوط نورها و أسدل الليل عباءته السوداء فرجع إلى بيته وقد انبثق نور من ذهنه يحثه على السفر خارج القرية حتى حين.
فتح المحفظة وأخذ منها رزمتين لا يدري كم بهما وخرج ليلا ذاهبا إلى محطة التاكسيات ليسافر بعيدا عن ما يضمره بيته وما يمكن ان يجره عليه المكوث في قريته و بعيدا عن هذه المحفظة التي لا يعرف ماذا هي حاملة له في المستقبل من أحداث. أحبها لما تحمله من أموال ولكن كرهها في نفس الوقت لما احدثته فيه من رعب وخوف...
ذهب بعيدا عن بؤرة خوفه. عن قريته التي ما تركها يوما منذ أعوام. مكت في الغربة مدة اسبوعين. كان يريد البقاء هناك حتى تنسى قضية المحفظة لكن عندما سمع أن السلطات سترجع الحجر الصحي نظرا لتفشي فيروس كورونا من جديد قرر الرجوع. في هرج ومرج بالمحطة واختلاط، استقل حافلة بثمن باهظ ورجع لقريته. كانت الطريق مزدحمة فوقعت حوادث واختلط المارة بعضهم ببعض. فكونوا بؤرا قال في نفسه أنها لا بد سيكون لها وقع على الزيادة في المصابين إذ لم يعد هناك من ينتبه لارتداء الكمامة ولا من يحترم المسافة المفروضة...
دخل منزله. تفقد المحفظة. وجدها كما تركها. قرر احترام الحجر الصحي والمكوث بالبيت الى أن يجعل الله للناس جميعا مخرجا من هذه الجائحة ويمده بذكاء يخرجه من ورطته ويجعل له هذه المحفظة منطلقا للسير نحو الغنى و التمتع فيكون تاجرا من تجار عام كورونا ويخلف ما أفسدته الجردان و ما عول عليه وجعله منصة لانطلاقته التجارية لكنها كانت منصة هشة فهوت بما فوقها...
احمد علي صدقي/المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق