الخميس، 30 يناير 2020

.............
خالد سليمان ................ لا يتوفر وصف للصورة.

يا دار قولي يا دار ، بقلم وألوان :*خالد سليمان
**********************
إن تجرح قلبا من القلوب ؛ فهذا اختيارك وحدك وقرارك الداخليّ ، فلا تقل كنت منفعلا ، ولا أدري ما أقول ، فهذا هروب من الرد الحقيقي ، وليس الرد الحقيقي الصادق ، فكل واحد منّا جرّاح ماهر ، ومتخصص في طعن القلوب ، وخاصة قلوب من يحب ، وتشويه مشاعرهم ، ولكن تبقى حقيقة واحدة هي أن تزرع وردة خير لك ألف مرة من أن تزرع ألف شجرة من الشوك .
في صباح اليوم استيقظت كعادتي للذهاب لقاعة التدريب في دمياط الجديدة ، وحاولت إعداد إفطاري سريعا ، ودخلت المطبخ لإعداد الشاي بالنعناع ، وعامة خذوها عنّي قاعدة : دخولي المطبخ دائما ما ينبئ عن كارثة ، فلو دخلت لصنع كأس من الشاي ؛ لكسرت البيض ، علما بأنّه لا علاقة بين البيض وبين الشاي ، وبدلا من وضع سكر في الشاي وضعت ملحا ،
وما أسوأ ما حدث لي عندما تذوقته !
بعد أن تناولت سبع تمرات ، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث شريف : ((من تصبّح بسبع تمرات لم يصبه سمّ ولا سحر ((
صدمت صدمة بهذا الطعم الصادم ، وما كان منّي إلا أن ضحكت ، ودخلت المطبخ لأرى وعاء الملح الناعم فاغرا فاه ضاحكا مستهزئا بي ؛ فكتمت آلامي في كبدي ، وأغلقت فمي ، ونزلت مسرعا ؛ فوقت دخول التدريب صار قريبا ،
واشتريت زجاجة ماء مثلّج ، وسرت منشرح الصدر إلى حد ما ، لولا ما فعله بي أثر الملح في الشاي بالنعناع .
ومضت بي خطواتي إلى محطة الركوب حتى وصلت إلى دمياط الجديدة ، ومع الحر الشديد للماء البارد سكّر آخر ،
وصلت إلى موقف السيّارات العقيم ، وكنت تقريبا آخر راكب ، لولا أني رأيت شخصا افترش المقعدين ، فرجعت ، وأغلق باب السيارة لكنه فتح سريعا ؛ لأسمع كلمة باللهجة الفلسطينية التي تقلب القاف كافا في بعض الكلمات :
تفضل اكعد أي اقعد ، وتقدمت شاكرا له صنيعه ؛ لأجد مقعدا خاليا ، وأغلقت الباب ، وأنا أتأمّل ترحيب الأخ الذي ركبت بجواره ، وانطلقت بنا الشاحنة البشريّة وسط ابتسامات هذا الأخ على مقطع ضاحك يذاع في مذياع السيارة المشوّش ، إنّه صوت عادل إمام في مسرحية شاهد ما شفش حاجة ، مقطع سرحان عبد البصير عندما فتح عرين الأسد ، وهو يردد بصوت طفولي باسم ما قاله عادل إمام : أسد آه هو أسد ، ده أنا بخاف من الكلب ؛ يطلع لي أسد ؟؟؟!!!!! ،
وضحك الرجل بطريقة أضحكت الجميع ، كنت أضحك على كلماته وتعليقاته ، وقلت في نفسي كم كان عادل إمام موهوبا في الوصول لقلوب الناس !!!!،
لو كانت موهبته في الدعوة إلى الله لكان له أثر رائع ، بدلا من شيوخ الكآبة والاكتئاب مع تقديري لكل من دعا إلى الله على بصيرة ، وأمر بالمعروف بمعروف ، ونهى عن المنكر بغير منكر .
ووسط ضحكات هذا الرجل ذي الشوارب المتناسقة ، توقّف المذياع عن المسرحية ؛ ليدير السائق مؤشّر المذياع على مقاطع سريعة بين موسيقى غربية وأخرى شرقية ، وصوت هادئ وصوت صارخ ، حتى استوقف هذا الأخ السائق قائلا : ارجع بالمؤشر قليلا ؛ لتتضح صوت ونبرات وردة في أغنية : دار يا دار يا دار ، راحوا فين حبايب الدار ، فين فين قولي يادار ،
فانطفأت ضحكته ، وتلونت نبرات صوته بفحم الحزن ؛ ليقول مخاطبا زوجته الصامتة :
إي والله ، فاكرة يا أم أحمد حصار بيروت 1982 ، وحبايبنا اللي إسرائيل ذبحتهم : مرعي وأبو مرعي ، وعايد ورابحة ، ونوال وابنها ، وصابرة وبناتها ، وعدّد الرجل أسماء وأسماء ، وختم حواره الدامع بصوت متهدّج :
الله يرحمك يا أمي ، وهنا هطلت أمطار الحنين داخلي ، وأنا أتذكر كل غال فقدته خلال الأربعة شهور الأخيرة رحم الله عزّ وجلّ جميعهم ، وبدأ الرجل يردد مع وردة :
داري الدمع يا عين داري داري
فيه رب اسمه كريم ساعة المحن ستار ،
وبدأت دمعاته كحبات لؤلؤ تتناثر ، وقلبي ينفطر معه انفطارا ، وسافر سكّين الحزن في وديان قلبي ، ولم يوقف سفر السكين المسافر داخلي سوى كلمات من شوك تسللت لمسامعي ، شوكة مؤلمة في القلب من راكبيْن خلفي يقولان مستهزئين : لا تصدّق هؤلاء ؛ لأنهم باعوا أرضهم ، كله كذب في كذب ، تلاقيه عاوز جنيه ولا اتنين .
وهنا نظرت خلفي ، وكلي رجاء ألا يكون هذا الأخ قد سمع تلك الكلمات المؤلمة ، ولكنه سمعها بل وتحوّل للخلف كاشفا عن ملامح نمر جريح صارخا :
لا والله يا أخي ، ما بعنا ، ولا يمكن نبيع ،
وبدأ يفتّش في ملابسه كالباحث عن إبرة في كومة قشّ ، وأنا أنظر لأصابعه المرتبكة المفتّشة حتى التقط شيئا أسود من داخل داخل ملابسه ، وعندما أخرجه قال :
هذا مفتاح بيتا في حيفا ، أبي قبل وفاته أوصاني بوضعه أمام قلبي ، وسيظل كذلك في قلبي حتى أعود أو أموت ؛ فيحمله أولادي ،
وهنا ربتت أصابعي على كتفه ، وقلت : ولا يهمك يا أخي ، كلنا إخوانك ، وبيوتنا بيتك ، فالأخ لا يقصد تخوينك ، أبدا معاذ الله ، فأنتم في القلب والعين ، وفلسطين أرض الإسراء تسكن القلب والعين منّا ،
وانبرى الرجل ؛ ليردّ بعض الأوراق النقدية التي وضعها أحدهما على كتفه قائلا :
لا يا إخوة ، أنا غنيّ ولا أحتاج هذا ، أنا صاحب مصنع رخام ، ويا أخي يا من تتهمنا ببيع أرضنا ، افرض أنّ هذا الأمر قام به عشرة عشرون ، فهلا تخوّن كل أهل فلسطين ؟؟
، أنا أمتلك مصنع رخام ، ويعمل معي بعض إخوانكم المصريين ، وقام بعضهم بخيانتي في ما يقارب السبعين ألف جنيه ، فهل كل أهل مصر سراكين ، أي (سرّاقين) ؟؟؟
معاذ الله ، كلكم أهل فضل وعلم ، وهذا الأخ ربما يزوج أخته أو بنته ، فأنا أعذره ، ولكني لا أخوّنه ، ولا أخوّن إخواني من أهل مصر ،
ووقفت بنا السيّارة عند المكان المطلوب ؛ لأجدني أودعه بحرارة ، وأنا أتعجّب للنفس البشريّة تضحك وتبكي في آن واحد ، ملامح الابتسامة وملامح الدمعة ،
وربّما كانت الدموع الآن في حياتي ابتسامات مبتلة بحزن قلبي ، وما إن خطوت خطوتين حتى وجدتني أتذكّر دمع الرجل على داره وأمّه وأبيه  :
دار يادار يادار يادار قولي يا دار
رحوا فينا حبايب الدار قولي يادار
يا ما فيك عشنا سنين نتهنى فرحانين
دلوقتي مش لاقيين غيرك أمان يادار
وتهدّجت كلماتي ، وضاعت حروفي ، حين انكفأت باكيا دامعا ، فأنا من الشخصيات التي توصف بأصحاب الدموع الداخلية ،
فما بالها الآن تفضح حزني وانكسار وجراح قلبي ،
وتفتح كتاب الدموع في لحظاتي ؟؟ .
فإياكم وجرح القلوب ،
إنّ القلوب لا تنسى من يجرحها ، وتتذكّر دائما من يربت عليها ، ومن يبتسم لها ، ويا من تتعمّد جرح غيرك ؛ تذكّر أنّه ليس مبررا لك أن تجرح الآخرين لمجرد أن فيهم من جرحك ،
فازرع وردة خير لك من زراعة فدان من الشوك .
ولينتصر خيرك على شرّ الآخرين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق