..................
أحمد علي صدقي/المغرب
..................
شامخة أنت كالهرم
قبل سفرها إلى الخارج، لمتابعة دراستها، أوصتها أمها قبل كل شيء، بالعض بالنواجد على سجاياها ولا تنصهر في مجتمع غير مجتمعها وتذوب فيه فتقد هاته الخصوصيات بلا هوادة: المروءة، والعروبة، و الدين، والإنسانية.
هي شابة بهية و ذكية... كانت في صفها دوما هي الأولى. في مدرستها ولذكائها، أحبها كل الناس: التلميذ، والأستاذ، و المدير، والحارس. حازت على شهادة الباكالوريا بامتياز وقررت متابعة دراسة الهندسة بالخارج. أبوها أستاذ متقاعد وأمها ربة بيت. انجبا هاذه الطفلة في أواخر عمرهما و كانت عندهما هي الوحيدة، فاستثمرا كل عاطفتهما في حبها... وكل ما يملكانه في النفقة عليها لشراء أفضل الملابس، وأحسن الكتب، فكانت لهما وبهما للاجتهاد أبرز الدارسات، وفي الأخلاق، أحسن المؤدبات، وفي الجمال أحسن الجميلات...
تحمل أبوها كلفة تسجيلها بمدرسة بالخارج. كانت المصاريف جد ثقيلة على جيبه ولكن لم يستطع كسر شوكتها إذ ألفت منه دائما كلمة حاضر وبدون مناقشة.
سجلت نفسها عبر الأنترنت، فهيأت كل شيء قبل السفر وحجزت لها شقة صغيرة بالحي الجامعي. دفع أبوها فاتورة الحساب لكل شيء.. دعا لها و ودعها يوم السفر وغزارة دموع الفراق يشهد عليها منديله الذي لم يجف ولم يستقر هنيهة في جيبه طيلة اليوم...
في الجامعة تعرفت على طالبتين من بلدها. ترسخت صداقتها بهما وأصبحت تلازمهم وتخرج معهم للتجوال بالمدينة، خصوصا وأنهما بهذا البلد منذ سنة فهما يعرفان أسوار المدينة وأغوارها.. لكن رغم كل ما تكنه لهما من محبة، فقد كانت غير مرتاحة لما يصدر منهما من خدش في الأخلاق وسوء تصرف خارج الحي الجامعي. بالتقريب كانتا في نظرها فاضحتان خصوصا بما تلبسانه: شورت فوق الركبتين أو سروال مقطع و صدر عار ورأس مكشوف و كانتا يداعبان الشبان في الشوارع ويضحكان من كل شيء بلا معنى. أخجلها هذا التصرف منهما فأصبحت تعتذر لهما كلما استدعتاها للخروج. كانت تنصحهما وتفكرهما بهويتهما و بالتحجب وكانتا يستهزئان منها وينصحانها بالتخلي عن تخلفها العربي إن هي أرادت العيش القشيب بهذا البلد المتحضر...
اقتربت العطلة وبعدها سيكون الامتحان. عابت على صديقتيها تهورهما واستمرارهما في اللهو إذ لم يعطيا أي اهتمام لتهيئ امتحانهما. خاصمتهما والتفتت الى دروسها... فتركاها وشأنها..
ذات مساء وهي غارقة في مراجعة دروسها إذ بها تسمع دقات متتابعة على الباب. فتحته فوجدت شابا لا تعرفه. أراد الدخول عليها فمنعته. تراجع وراء فهاجم بابها شابان آخران ومن ورائهم صديقتيها وهن يقهقهن من خجلها ومن كثرة خوفها من هؤلاء الشباب.. لما رأتهم تنفست الصعداء، وضحكت للجميع، ودعتهم للدخول...
مر من الوقت في صحبتها زمن طويل كله مجرد نكث بائخة وضحك غير لازم. لم ترتح لهذا، فطلبت من الجميع السماح لها بمتابعة مراجعة دروسها. إحدى صديقاتها أخذت مفتاح الغرفة وهي تضحك. أخرجت الجميع وخرجت معهم ثم أوصدت وراءها الباب وبالداخل اختلى ذلك الشاب بصاحبة الغرفة. افتكرت وصايا أمها، طلبت من الشاب الخروج لكنه ضحك و اعتذر لأن الباب مقفل. دقت من الداخل تستنجد بصديقتيها لكن كانت تسمع الضحك ولا أحد يجيب. قال لها الشاب وهو يبتسم:
- لا تخافي يا جميلة فلن آكلك. مد يده لنزع حجابها، لطمته على خذه. تقبل اللطمة بسكوت ومسح خذه و قال لها:
- لماذا كل هذا التعنت؟ أنت الآن بين يدي، وصديقتيك هما من أتيا بي إلى هنا وليس لشيء إلا لأعلمك كيف تعيش البنات الجميلات في هذا البلد المتحضر. فهدئي من روعك فلن تنفعك قوة عضلاتك الضعيفة. قالت له:
- أنت هو الضعيف أيها الأبله. أتظنني خائفة؟ طيلة حياتي لم أخش أحدا إلا الله. جذبها مريدا ضمها اليه. تنطعت.. ابتعدت عنه.. قدفته بالهاتف الذي كان بيدها. تكسر الهاتف على جبهته. جرها اليه، لوى دراعها... حاولت التخلص من قبضته.. سقطت على حافة السرير.. تكسر دراعها. صاحت صيحة فتح معها الباب و دخل شياطين الانس الذين كانوا خلفه يتحسسون. كانت تمسك دراعها في صمت ودموعها منهمرة على خذها والشاب مذهل ملتصق بالحائط مدهوش وقد أخافه ما وقع و لا يدري ما يفعله. دخلت عليها صديقتيها أما الشبان الثلاثة ففروا خوفا من الفضيحة. طمأنتا المتوعكة ثم أخذتاها لعيادة الحي...
تغيبت الفتاة، بعد هذا الحادث، عن الدروس، وقد اقترب موعد الامتحان. سأل عنها أستاذ الرياضيات وكان عربيا من بلدتها. كانت عنده هي المحبوبة من بين كل طلابه. أحبها لذكائها ونجابتها وسرعة ردة فعلها اثناء الدروس ولحشمتها واحتجابها. أخبروه أنها مريضة... في المساء ذهب لزيارتها واستغرب لما وقع لها حين أخبرته أنها سقطت على السرير وتكسر دراعها. أخذ لها ما يستلزم من الأدوية وشرع يبعث لها الدروس طيلة أسبوع كامل وفي نهايته استضافها لتذهب معه الى منزله لقضاء العطلة هناك.. قبلت الدعوة بعد الحاح منه وتردد كبير منها... لم تخبر أحدا بما وقع لها مع الشاب لكن أحدهم أخبر والديها بالحادث، إذ تلقى أبوها رسالة على الواتساب تخبره بأن ابنته قد وقعت في مأزق مع أحد الشبان وتكسر دراعها و تركت الدروس وغادرت شقتها وهي الآن في دار أحد الأساتذة الذي أغرم بها. حاول أبوها الاتصال بها عدة مرات، لكن بدون جدوى. في بداية الأسبوع هاتف مداومة إدارة الجامعة فأكدت له الخبر وأن ابنته لم تحضر للدروس طيلة الاسبوع المنصرم. احتار لأمرها لكن ما العمل؟ فليس له القدرة للالتحاق بها. فلا هي قريبة للوصول اليها ولا هو عنده جواز سفر لقضاء هذا الغرض...
وهو في حيرة من أمره إذ بهاتفه يرن. تفحص الرقم فإذا هو رقم ابنته. تنفس الصعداء ثم أجاب:
- ألو. أين كنت يا بنتي لقد... قاطعه مهاتفه:
- السلام عليكم يا عمي. أجابه:
- هذا رقم ابنتي فمن أنت يا هذا؟ أجابه:
- أنا أحد تلامذتكم في الاعدادي. وأنتم من نصحني بالراسة بالخارج. تذكر، فأنا ذلك التلميذ الذي كنتم، حين تخرجون من القسم، تكلفونني برعاية التلاميذ حتى ترجعون. أجاب لأستاذ:
- افتكرتك يا ابني. فمن يوم سافرتم إلى الخارج ما سمعنا عنكم خبرا، ولكن اخبرني من فضلك أين هي ابنتي؟ وكيف حصلت أنت على رقمها؟ أجابه:
- أنا اليوم أستاذ ابنتكم في الرياضيات وقد وقع لها حادث فتكسر دراعها وأخذتها للاعتناء بها وهي الآن بخير، فهي معنا كضيفة في منزلنا أنا وأمي وأبي. قال الأب:
- الحمد لله لقد طمأنتني يا طيب. هل يمكنني أن أتكلم معها؟ أجابه:
- لا يمكن فأنا بالسيارة خارج المنزل، وعندما أرجع ستهاتفك ابنتك إن شاء الله. مع السلامة. نلتقي فيما بعد...
أخذ الأب رأسه بين يديه وقد طلت عليه من كوات نفسه الأمارة بالسوء أفكار سلبية دعمتها رسالة الواتساب المشؤومة التي أتته بالخبر من مجهول... ابنته مكسر دراعها وهي في دار استاذ لا هو أخوها ولا هو من عائلتها. استسلم لقضاء الله وظل ينتظر الهاتف وهو حائر تائه يتدور يأسا بين خلجات هذا الموضوع الشائك...
انتظر الرجل أكثر من ثلاثة أيام بعد هذا المكالمة والحسرة تقتله والأسى ينخر دواخله وعلامات التعجب، حول تصرف ابنته، تحوم، بلا انقطاع، فوق رأسه. تحدث مع زوجته حول ما يمكن فعله للوصول لابنتهما أو على الأقل معرفة كيف هي، وكيف حالها، وفي قبضة أية يد تعبت بها، هي الآن؟ الأب حائر والأم تبكي وتتضرع الى الله أن يحفظ ابنتها... منذ أن أخبرها زوجها بالرسالة التي أتته عبر الواتساب من مجهول تشتت أفكارها وتولد عندها شك هائل إزاء فلدة كبدها...
في صباح اليوم الرابع رن الهاتف. فإذا به رقم الابنة. بذون بداية قال:
- ما هذه الأخبار التي أسمع؟ وماذا وقع؟ أجابته ابنته:
- لم يقع شيء يدفع للقلق. وأنا بخير وستراني بأم عينك يا أبي الحبيب. أجابها:
- متى أراك وكيف سأراك وأنت بعيدة عني بهذه المسافة؟ لقد احترق قلبي شوقا اليك يا بنتي؟ أجابته:
- ستراني الآن. ما عليك سوى أن تفتح الباب وتجدني أمامك. هرول الرجل نحو الباب. فتحه.. نظر يمنة ويسرة... ليس هناك سوى سيارة، مرقمة بالخارج، واقفة بالشارع. اتجه نحوها.. نزل منها شاب أنيق وقال له:
- أتبحث عن شيء يا شيخ؟ قال الرجل:
- والله أظنني أبحث عن نفسي. لقد اختلط عندي الحابل بالنابل وما عدت أعرف هل أنا يقظ وفي حقيقة أم أنا نائم وفي حلم... خرجت ابنته من السيارة وهي تصيح أبي، أبي... ثم تعلقت به تعانقه والدموع تخنقها. لم يعد أبوها يدري أين هو ولا ماذا ألم به. ضمها إليه وما استوعب ما هو فيه إلا عندما صرخت البنت وقد أوجعتها ضمته في يدها المعلولة. خرجت زوجته تجري مرددة ابنتي، إبنتي.. عزيزتي على سلامتك... وفي لمة حية تنبض بالحب والعشق والجمال تعانق الجميع. أب، وأم، وبنت، وأستاذ...
كان أب الأستاذ وأمه بالسيارة ينظران الى هذا المشهد المثير والدموع تتساقط منهما كحبات المطر. خرجا من السيارة وانضم الكل يعانق بنت الأستاذ في لمة كبرت واختلطت فيها الزغاريد بالنحيب والكلام بالهمهمات حتى ذاع صداها بين حيطان الحي وخرج بعض الجيران يتفقدون ماذا وقع. كبرت الفرحة بالداخل فكانت عارمة وازدادت زهوا لما زغردت الأم لطلب أب الأستاذ ابنتها زوجة لابنه وتعهده بالتكلف بمصاريفها حتى تتم دراستها... قال لها الأب:
والله ستبقين عندي شامخة كالهرم أيتها الابنة الصالحة...
أحمد علي صدقي/المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق