السبت، 2 أكتوبر 2021

 ..................

عبده داود

..............



الكستناء الذهبية
قصة أسطورة
كانت الأمطار تهطل بغزارة، ممزوجة بحبيبات الثلج المثلجة، ليلة شديدة البرودة، والوقت اقترب من منتصف الليل، والشوارع تقريباً فارغة إلا من بعض المارة القلائل الذين كانوا يسرعون الخطى تحت مظلاتهم التي لا تقوى أن تحميهم من المطر المنهمر، والرياح عاصفة تحاول بشدة اقتلاع المظلات من ايادي حامليها...
أنا كنت أجرجر جسمي النحيل في الشارع، لم أكن قادرا أن أسحب مظلتي من يد الريح الهستيرية، لذلك اقفلتها وفضلت السير تحت المطر بدونها... لفت نظري بائع كستناء كبير في العمر واقفا في زاوية الشارع تحت شرفة بالكاد تحميه من المطر العاصف... خلف عربة خشبية قديمة تبدو أكبر منه في العمر...
أحسست ببعض الوهج يأتي من عربته. حييته ووقفت بجانب العربة أستجمع قوتي، التمس بعض الدفء.
كان يضع في قلب تلك العربة منقل نار فوقه صفيحة
يشوي فوقها بعض حبات الكستناء، هذه هي كل بضاعته التي يقف في البرد من أجلها...
قال الرجل أهلا بك يا محترم. ما الذي جاء بك في هذا الجو العاصف؟
قلت طلبوني لزيارة رجل يحتضر حتى أصلي له، قبل أن يرحل من هذا العالم البائس، ربما يجد هناك حياة أفضل...
قال: ربنا يشدك في عملك الطيب. وهل هو من ديننا؟
قلت وهل يوجد خالق غير الله في الكون...كلنا واحد وأفضل الناس عند الله اتقانا...غير ذلك يعتبر جهالة.
تأملت في ذلك البائع وفي عربته، وفعلا تألمت لحاله لقد اتعبته السنون وهو لا يزال واقفا مكافحا يعمل في هذا البرد القارس من أجل لا شيء...
قلت دير رهباننا يشبه حال هذا الرجل الهرم، الذي اتعبه العمر وديرنا كذلك انهكه الدهر، ونحن غير قادرين على إصلاحه لعدم توفر المال لدينا...تبرعات قليلة تأتينا من سكان بلدتنا، لا تكفي حتى لسد احتياجاتنا الأساسية...
وعندما يهطل المطر مثل هذه الليلة، ثقوب كثيرة في السقف تدلف على غرفنا. أنا وزملائي الكهنة...
نسأل رئيس الكهنة مساعدات مالية، يقول: صندوق الأبرشية فارغ... أجمعوا تبرعات من الأهالي، والأهالي أصلا هم بحاجة إلى مساعدات مالية، يا رب أرحم.
كان الوقت يقترب من عيد ميلاد 1890. أقصد قدوم موسم البرد والمطر والثلوج والرياح الباردة في بلدتنا على جبال الألب...
أنا وزملائي الكهنة الهندوس كنا نحيي الصلوات يومياً طالبين المعونة من الله القدير، حتى يرزقنا ونقوم بإصلاح ديرنا الآيل للسقوط...
قطع حبل شرودي بائع الكستناء، وهو ينكزني ليقدم لي واحدة من حبات الكستناء المشوية...
شكرته ونظرت الى السماء وطلبت الرحمة لهذا الرجل الكهل المتعب.
أنا أحب الكستناء جداُ، كان معي بعض النقود القليلة، وقلت أفعل بها خيرا، خير من حبات اشتهيها، وربما حسنة صغيرة يعيدها الله لنا أضعاف مضاعفة...وأفرغت ما معي من نقود على عربته...
قال الرجل: هذا كثير يا محترم...
أكلت حبة الكستناء الساخنة بهدوء، وتشكرت البائع، وودت متابعة مسيري.
رفض الرجل بإصرار أن يأخذ المال، وأنا رفضت أن استعيده، فما كان من البائع، إلا ان بادلني بفعل محبة جميل مماثل.
وضع بعض حبات الكستناء في كيس، وقال لي هذه هدية لك ولزملائك في الدير.
لم يستطع أحد منا أن يقضم حبة واحدة من حبات الكستناء، اربكتنا الدهشة والاستغراب...ثم تبين لنا بأن حبات الكستناء تلك كانت من الذهب الحقيقي...
حاولنا أنا وزملائي أن نجد بائع الكستناء ذاك، لكننا عجزنا عن معرفته، صلينا وشكرنا القدير على عطائه السخي.
كان ثمن حبة كستناء واحدة كافية لإصلاح الدير
ونحن نشكر الله على عطائه...وفعل المحبة الصغير
عظيم عند الرب
وما فتئنا نبحث عن ذاك الرجل بائع الكستناء حتى يومنا هذا.
كتب القصة: عبده داود
آب 2021

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق