السبت، 30 أكتوبر 2021

 .................

خالد سليمان

...............



أشيك قميص في حياتي
😘
بقلم وألوان : خالد سليمان
************************************************
في بلاد الغربة التي طافت روحي بها ، لا أنسى ذلك الصباح الذي أعددت نفسي فيه لتكريم أعدّته إدارة المدرسة لأفضل برنامج إذاعي يومي ، فبدأت أختار لنفسي أجمل وأرق الأزياء لذلك ، وبدأت ألبس قميصي الأبيض والكرافتة الفضيّة ؛ وإذا بأحد الشباب من شباب مصر المهاجرين الذين يسكنون بجواري يدقّ بابي ، وعلى ملامحه ألف صدمة وصدمة ، يطلب منّي بإلحاح زجاجة عطر ؛ لإفاقة أحد الشباب الذين أغمى عليهم ؛ نتيجة ما حدث لقميصه الوحيد الذي سيلبسه في مقابلته الشخصية المقرّرة صباح اليوم ، فما كان منّي إلا أن أسرعت معه ؛ لأرى ماذا حدث ؟ ، فقد عيّنت نفسي أبا روحيّا لهؤلاء الشباب المهاجر خير من أنجبت مصر من عقول واعية وقلوب طيّبة جميلة ، وأرواحا مفعمة بالأمل .
رأيته مغمى عليه والدموع على خديه ، وبعد دقائق أفاق صاحبنا ليدخل في نوبة بكاء مصحوبة بكلمات تغضب الله عزّ وجلّ ( أنا كده ماليش حظ في الدنيا دي ، عملت إيه يارب في حياتي بس ، يعني مش هاحضر المقابلة الشخصية ، خلاص فرصة العمل المناسبة راحت منّي ) ، فأخذتني الشفقة عليه وقلت : ماذا حدث حتى تقول تلك الكلمات التي تغضب الله - عزّ وجل - ؟ ، استغفر ربّك ، فنظر إلي وعيناه مليئتان بالدموع : أستغفر الله أستغفر الله ، خلاص يا أستاذ خالد مش هاحضر المقابلة الشخصية ، القميص الأبيض غسلته ليلا ، وحاولت أن أكويه ، ولكن المكواة أحرقته ، لا يصلح إلا قطعة قماش لتنظيف البوتاجاز ، وغاب في نوبة بكاء ، وتأملت القميص فوجدته يشبه قميص عبد الحليم في فيلم من أفلامه مع زينات صدقي ، وهو يخلعه ممزّقا إلا من ياقته وأسورتي القميص ، والباقي يكاد أن يكون متصلا بخيوط مفكّكة ، فخطر ببالي أنّ هذا القميص يصلح تحت الجاكيت الأسود الخاص بي ، فما حدث به من تلف يمكن ستره بالجاكيت ، وأصابتني حالة تردّد ؛ فحفل اليوم لا يحتمل المخاطرة ، ولكنّي أردت أن أدخل السرور عليه ، بعدما سألت عن قميص يعيره أحد لصاحبنا ، فاعتذر الجميع ، وعلى الفور أخذت أشلاء القميص المحترق وتواريت في إحدى الغرف ، وخلعت قميصي وارتديت القميص المحترق ، وحاولت النظر في المرآة ؛ لتعلو ضحكاتي على منظري ببقايا القميص الممزق من كل ناحية ، فانتبه الشباب لضحكاتي ، ولا سيّما وهم غارقون في صمت حزين وكآبة لا توصف ، وعندما خرجت عليهم أصاب الجميع نوبة ضحك هستيرية ، فالأستاذ خالد الذي عرفناه أنيقا وسيما ؛ يرتدي قميصا يشبه قارات العالم الست ، وذهبت لصاحبنا حاملا قميصي الأنيق الوسيم المعطّر ، وقلت وأنا أضحك قائلا : سيادة الباشمهندس لو تكرّمت أعدّ نفسك للمقابلة الشخصية ، فانتبه إليّ ومن دهشته قال : هل أنت أصلحت القميص ؟ ، ولم يكمل جملته ؛ حتّى غاب في نوبة ضحك صاحبتها دموع ودموع ، وأنا أربت على كتفيه : هوّن عليك ، سأتأخّر عندي مدرسة ، وما لبث الجميع أن غرقوا في محيطات الضحك كلّما نظر أحدهم إليّ ، وجاء صاحبنا يحتضنني ، ويقبل رأسي قائلا : لن أنسى لك هذا الموقف ، ربنا يسترك في الدنيا والآخرة يارب ، وهمّ ليقبّل يدي ؛ فقلت ضاحكا : ولد ، من فضلك حافظ على أناقتي ، ولا تلمس القميص بعنف فتتفرّق أشلاؤه في المكان ، فضحك الجميع وهم يردّدون أشيك قميص ، أحلى قميص ، وهل يوجد مثل هذا القميص ؟!! .
وخرجت وسط جوّ فرح وابتهاج ، ورأتني زوجتي - رحمها الله - ، فنظرت بدقّة وتمعّن وقالت : يا ستّير يارب ، ماذا حدث ؟؟ فقلت لها ببرود أعصابي : ماذا هناك ؟ اليوم يوم تكريمي ، فأردت أن ألبس أشيك قميص في حياتي ؟؟ فضحكت هي الأخرى ، بشكل جعلها تجلس على أقرب مقعد ، وسألتني ماذا حدث ؟ ، فقلت لها : لو تكرّمت أجّلي أيّ نقاش لحين عودتي ، ولبست الجاكت الأسود فستر كلّ شيء ، ولم يعرف بحقيقته إلا من شاهدني من الشباب ، والعجيب في أثناء نزولي قابلني جاري النيجيري الذي يسكن في الطابق الخامس ، وهو يصدر صفيرا متعجّبا قائلا : أوووووو ما هذه الأناقة يا أستاذ خالد ؟؟؟ ، فقلت : أناقة ، فقال نعم ، أناقة ، وأخفيت ضحكتي في صدري ، ووصلت مدرستي أثناء اصطفاف الطلاب ، وكلّ من رآني - حتى من غير العرب - أبدى إعجابه بي وبملابسي هذا اليوم ، وجاء دور التكريم حيث تقدّمت وسط تصفيق حاد ، وأنا أكاد أكتم ضحكة كان لابد لها أن تخرج ، واستلمت جائزتي ، والأخ المذيع ما ترك وصفا جميلا إلا وألصقه بي ، وأنا أهمس لنفسي : وددت لو خلعت الجاكيت الأسود امامكم ، وكم سيتبدّل الحال ؟؟!! ، والعجيب أنّ جميع الحاضرين طلبوا منّي صورا تذكارية معي ، ولم يفطن للضحكة المكتومة سوى صديقي المقرّب لقلبي : سألني : شكلك مبسوط جدا بالجائزة أم هناك أمر آخر ، لكنّك تكاد تفسد الصور بابتسامتك العجيبة ، عندك حق .
وهمست له في حجرة اللغة العربية سأحكي لك السرّ ، وعندما دخلنا غرفتنا قلت لهم : انظروا جيدا لأشيك قميص في حياتي ، فضحك الجميع وخاصة أن المكواة أحرقت بدقّة ظهر القميص وباطنه ، وغرق الجميع في نوبة ضحك ، وكتمت سرّ القميص سنوات وسنوات ، ولكنّ أعدّه أجمل الأزياء ، ولم لا يكفي أنّه أدخل السرور على قلب مصدوم حزين .
كم من القلوب الحزينة تحتاج جبرا ، طبطبة ابتسامة ؛ فلا تبخلوا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق