................
إبراهيم عبد الكريم
................
قصة تحت عنوان: قرابين إلى البحر
بقلم: إبراهيم عبد الكريم
في صباح قائظ من يوم الجمعة، توجه فريد إلى المقبرة للترحم على والديه، اعتاد زيارة قبرهم كل سنة في شهر غشت من العطلة الصيفية حينما يعود الى الوطن الأم، كانت الشمس قد أرسلت أشعتها في سماء زرقاء صافية بعد ساعتين من بزوغ نور الفجر وظهور النهار، لكن هذه المرة تفاجأ بوجود عدد كبير من الرجال والنساء على الرغم من الإجراءات التي أقرتها الحكومة للحد من الانتشار المتزايد لفيروس كورونا، اكتضاض يجمع رجالا ونساء من مختلف الأعمار بالإضافة إلى فقهاء يتنقلون من قبر لآخر لتلاوة ما تيسر من القرآن الكريم مقابل بعض الدراهم، كما كان هناك أطفال يرون المقبرة ذهابا وإيابا، في تزاحم على بيع زجاجات بلاستيكية بحجم خمس لترات من الماء. كان من بينهم شاب ينحدر من جنوب الصحراء، بدوره يتسول لكسب قوته اليومي وهو مازال في مقتبل العمر. في حركة مفاجئة، اقترب الشاب المسمى مامادو من فريد وهو يردد كلمات متهدجة غير مفهومة، وعلامة الحزن بادية على وجهه، بنظرات تائهة يرسلها تارة الى اليمين وتارة أخرى إلى اليسار وكأنه خائف من شيء ما، في الحقيقة كان يراقب الشرطة التي مافتئت تطارد المتسولين والزوار معا للمقابر خوفا من تفشي فيروس كورونا، وكذلك نشوب صراعات بين الحاضرين، كان مامادو يردد بصوت منخفض " أعطيني درهم باش ناكل" يضيف بكلام متلعثم " في سبيل الله" يكررها مرات عديدة، كان طويل القامة، يحمل فوق ظهره حقيبة، يرتدي ثياب متسخة وشعره مجعد، نحيل الجسم، تبدو عليه علامات التعب، لم يكن له مأوى ينام فيه إلا المنازل المهجورة أو على أرصفة الطرقات، غالبا ما ينام على قطع من الكارطون، في بعض الأحيان لا يتردد في البحث عن قوته داخل صناديق القمامة، من حين لآخر يعمل حمالا داخل السوق لكسب المال لسد احتياجات رمقه اليومي. منذ اللحظة الأولى شعر فريد بالشفقة والعطف عليه،، ذكره حاله بماضيه المأساوي، حين كان مشردا بأزقة باريس، يذرع شوارعها طولا وعرضا من بزوغ نور الصباح الى أن يرخي الليل ستاره، والخوف من الشرطة يمزق أحشاءه لعدم توفره على بطاقة الإقامة الشرعية، .
في البداية قدم فريد لمامادو رغيفا من الخبز وحبات من التمر، على عادة الصدقة في المقابر، لكن هيهات كل شيء تغير، حتى طبيعة الصدقة تغيرت في وقتنا الحاضر، أصبح المتسول يطلب المال، الدراهم ،لاسيما وان مامادو في حاجة إلى توفير قدر من المال لركوب البحر وعبور البحر الأبيض المتوسط في اتجاه أوروبا. .
مامادو غادر أهله ووطنه منذ أربع سنوات ليصل مؤخرا إلى المغرب في انتظار الفرصة السانحة للالتحاق بمدينة ساحلية من مدن الشمال المغربي بحثا عن فرصة الإبحار إلى الضفة الجنوبية من أوروبا، الى "الدورادو"، لبناء مستقبل أفضل، لكن الظروف الدولية المستجدة لفيروس كورونا حولت هجرته إلى معاناة أكثر، بات العبور شبه مستحيل بسبب الحجر الصحي الذي فرض بالمغرب ومخلفاته على المواطنين من تقليص فرص العمل، والحد من حركة التنقل وحرية السفر بسد الطرقات، وتكثيف المراقبة وإقامة الحواجز بين المدن والجهات، كما تم تشديد الرقابة على الحدود الجنوبية لأوروبا في وجه كل الراغبين في العبور بطريقة غير شرعية، حتى المطارات توقفت عن استقبال الطائرات والموانئ كما ألغيت حركة الملاحة . دار حديث شيق بين فريد ومامادو، الشاب المتعلم، الحاصل على شهادة
الإعدادي، كان يتحدث بالفرنسية، لغة فيكتور هوجو، إلا أن الحظ لم يسعفه في الحصول على عمل يسد به حاجته اليومية وعائلته، كان يتحدث عن أصله وقد فاضت عيناه بالحزن والأسى، ينحدر من عائلة كبيرة، كان أبوه متزوجا من ثلاث نساء قبل أن يموت في حادثة إرهابية تعرضت لها قريتهم ليلا، كان يروي حكايته وعلامات الشوق والحنين لأهله ووطنه تعلو وجهه، لقد أدى الجفاف وغياب فرص العمل الى تفكك الاسرة بعد ان غادر اخوته الكبار بيت العائلة ليجد الصغار أنفسهم عرضة للجوع والتشرد، "لهذا قررت بدوري مغادرة القرية" هذا ما قاله بصوت خافت، كان مجبرا على شد الرحال مشيا على الأقدام في اتجاه دول شمال افريقيا، كمحطة أولى في تحقيق الهدف المنشود، كان يتحدث بحسرة عن أمه وإخوته الذين تركهم في ظروف مزرية، يحكي خوفه واصدقاءه من الحيوانات المفترسة والعقارب السامة، خوفهم من قطاع الطرق والمجموعات الإرهابية التي تتواجد بمالي وما تقوم به من تخريب وقتل للأبرياء من شيوخ ونساء وأطفال، هاجر برفقة مجموعة من شباب قريته تتكون من عشرة أفراد، يقضون ليلهم مشيا وينامون في النهار لكي لا ينفضح سرهم، وحينما وصلوا الحدود الجزائرية كان همهم الوحيد هو تجاوز الجنود الذين "لا يتسامحون مع أحد" هذا ما قال عنهم وهو يردد كلمة "لا قلب لهم" تحدث عن المعاملة التي عوملوا بها طيلة رحلتهم الشاقة، من حين لآخر يرفع رأسه إلى السماء ليشكر ربه وكل من التقى به، لاسيما من احسن معاملتهم وزودهم بالاكل والشراب.توقف هنيهة لينظر الى فريد قائلا: "من الصعب ان تنام في الغابة خوفا من بطش البشر"
أضاف قائلا" كنا نصوم النهار كله مجبرين لا مخيرين لانعدام توفر الطعام"، يضيف بنبرة الناجي من الهلاك قائلا:
"كان الموت يهددنا كل دقيقة وساعة، بل كان يرافقنا دون كلل، لا سيما المناطق التي تخضع لرقابة المنظمات الإرهابية المسلحة، التي تبيد الأخضر واليابس" ، على حين غرة التفت الى فريد ليتوجه إليه بكلام برنة حزينة مأساوية وقد زم شفتيه قائلا" تصوريا صديقي شربت بولي من حدة العطش"، توقف عن الكلام، وهو ينتظر حركة أو كلمة تنطق بشفتي فريد لكن الأخير ظل واجما، لم ينبس ببنت شفة، طأطأ رأسه احتراما وتأسف لما حصل لصديقه الذي تابع بصوت ينم عن قناعة صاحبه بأن البديل، غير موجود واندثر لعامل الظروف السياسية والدينية التي تتعرض لها إفريقيا عامة والساحل بالخصوص، قائلا " أنها الصحراء يا صديقي، الحرارة تحصد كل شيء إلا الرمال وبقايا من رفات الحيوانات والبشر..".
كان يتحدث وعلامة اليأس قد سحبت الدم من وجهه كما أن عينيه يغرغران بالدموع، من حين لآخر يرتشف جرعة من قهوته بعد أن التهم آخر حلوى كانت على الطاولة من كثرة الجوع، أما فريد فقد غادرته الشهية بسبب ما سمعه من حكاية صديقه مامادو، في حركة غير عادية أخرج مامادو حجارة من جيبه لونها مزركش، صغيرة الحجم، كانت ملفوفة في رقعة من قماش قديم، فقال بافتخار " أنه حجر الحظ " أضاف بقوله "هذا ما أعطيني امي ليحفظني من كل مكروه"، وبحركة سريعة اعاد حجارته الى جيبه دون أن يمسها فريد.". .
استرسل في الكلام، هذه المرة ليتحدث بنبرة تفيض بالحنان والشوق عن أمه التي فارقها واصفا إياها بأحسن عبارات الجمال، كانت تربطه بها علاقة فريدة من نوعها لكونه الابن الأصغر في العائلة، ثم أنهى كلامه قائلا" تركتها والدموع تتساقط من عينيها يوم ودعتها" ثم أضاف " زودتني بالنصائح ودعوات الخير" كان يتحدث ومن حين لآخر يتوقف ليتنهد تنهيدة عميقة ثم يقول " لا أريد الغيش في المغرب، أريد الإبحار إلى أوروبا" ويضيف" انتظر الفرصة منذ أربع سنوات" استطرد قائلا" في العجلة الندامة، وفي التأني السلامة، لا بد من التحلي بالصبر، أملي أن أحقق هدفي ان شاء الله". ما زال يتسكع على الطرقات و أرصفتها، في بعض الأحيان يجد ملجئا للنوم وفي بعض الأحيان ينام داخل منازل مهجورة من أهلها في خوف دائم من الشرطة، يستعمل كل الطرق لكسب المال، غاسل صحون بالمطاعم او حمال بالسوق الاسبوعي او عامل بالضيعات الفلاحية اما التسول، كما قال يلتجئ اليه حينما لا يجد عملا آخر، إلا أن ظهور فيروس كورونا زاد من متاعب المهاجرين الذين ينحدرون من أفريقيا أو اوغيرها، كان للحجر الصحي أثر سلبي على حياتهم اليومية، من الناس من يفر لرؤيتهم ومنهم من يعتبرهم سببا في تفشي مرض كورونا ومنهم من يسميهم باسم كوفيد، لاسيما وأن المسؤولين لم يتخذوا أي إجراء لمساعدتهم في محنتهم، كان يتحدث بعبارات مفعمة بالأمل في الوصول إلى أوروبا وتحقيق أمانيه والارتقاء بحياته إلى الأفضل لإعالة عائلته، من حين لآخر يعود للحديث عن أمه التي كلما ذكر اسمها يدب في عمقه حزن الفراق المليئ بالشوق والحنان في ذرف دموع الفراق. كان حديثه هادئا ينم عن قناعة في مؤهلاته. في الٲخير قال بنبرة المدبر وهو يفرك يديه " صديقي، هذه التجربة صقلت حياتي و أورثتني رغبة جامحة في تحقيق الهدف الذي من أجله هجرت أهلي ووطني"، ليضيف قائلا" لا مكان للخجل في مسيرتي، فالهجرة محك الرجال"، يضيف قائلا بصوت خافت تطغى عليه نبرة الحزن والأسى قائلا"على الرغم من الحظ العاثر". كان فريد يصغي إليه والى حكاية حياته وما يتعرض له المهاجرون الأفارقة من يٲس ومعاناة في حياتهم وهو الذي يعلم جيدا أن ما ينتظر مامادو في ديار المهجر أكثر قساوة وفي بعض الأحيان مذلة. ان كانت الظروف المادية والحقوقية مريحة فإن الحياة الاجتماعية والمعنوية شائكة، لاسيما مع تنامي العنصرية وانتشار الأفكار المتطرفة القائمة على مقولة " الوطن للوطنيين" والرفض لوجود الأفارقة والعرب والمسلمين، بعد إحياء "فكرة الاستبدال" التي تتنبأ باندثار الإنسان الأوروبي وتكاثر المسلمين والمهاجرين بكثرة إنجابهم للأبناء.
أسبوع قبل عودة فريد إلى إقامته بديار المهجر تفاجأ بخبر غرق قارب من قوارب الموت وعلى متنه أكثر من مائة مهاجر سري غالبيتهم من أفريقيا في محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط لعطب تقني وهيجان البحر في الوقت الذي لم يتمكن رجال الإغاثة الإسبان والمغاربة من فعل أي شيء لإنقاذهم.
23/12/2021
إبراهيم عبد الكريم
المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق