...................
جمال الطرودي/ تونس)
...............
**الرّصاصتان المتقاطعتان**
لجأ الحارقان إلى مبنى مهجور في في مدينة الجنّ و الملائكة بعد أن راوغا حرّاس محتشد المهاجرين غير الشرعيين العشوائي المقام على جانب سكة الحديد الغربي..
جمعا قضبانا من الحديد الصدئ و بقايا أخشاب شكّلا منهما هيكلا لجحر في ركن من المعمل المهجور وكوّما عليه الحجارة حتى ظهر ككومة من شظايا السقف المتراكمة في المكان . كانا يتسلّلان كلّ ليلة إلى الجحر، بعد قضاء اليوم في تسوّل الطعام. إذا مرّت سيارة الشرطة ذابا في الغابة كظبي برّي. كانا يتراصّان داخل الجحر كتراصّ ضبّين في غار ضيّق بعد أن يمحوا الآثار المؤدية إلى المكمن.
توقفت سيارة الشرطة أمام المصنع المهجور و نزل منها شرطي جعل يقتفي الآثار حتى وصل إلى القاعة الفسيحة. رأى الآثار تؤدّي إلى ركن فرشت فيه كردونة ظن أن الفارّين من المحتشد يستعملونها كفراش. لقد وضعها ساكنا الجحر للتمويه حتى لا يواصل البحث و يكتشف أمرهما.
بعد أن تأكد الشرطي من خلوّ المكان . أنزل رفيقه مهاجرة غير شرعيّة و قادها إلى الكردونة لمّا وقف هو بجانب السيارة للحراسة.
وجّه الرفيق رأس الفريسة إلى الحائط و همّ بإنزال سروالها فاستدارت مذعورة و ترجّته فصفعها صفعة ارتطم لها رأسها بالحائط الاسمنتي فأدمى وجهها. و سحب مسدسه وضغطه على قفاها بشدة حتى كاد يهشّم نافوخها. نزلت دموعها على خدّيها و فكّت حزامها و أنزلت سروالها. فاندلعت أليتاها الضخمتين المكوّرتين و ألهبتا شهوته و زادتا من هيجانه. بصق ثمّ أولج لا يعلم في أيّ ثقب فأحست و كان مارجا من نار يدخل بين فخديها من شدّة الإحساس بالقهر و العار الذي وقعت فيه جرّاء تركها بلدها مع أنّ قضيبه لا يتجاوز مرودا كانت تكحّل به عينيها بالنسبة إلى مرزام بعلها الذي افتقدته منذ أيام بعد أن فرّ من المحتشد.
لقد تحايلت حتى تمكّنت من مراوغة الحرّاس لتبحث عن زوجها فوقعت بين يدي وغدين أوقفاها ليقتاداها إلى المخفر!
كان الضّبّان يرمقان المشهد من خلال الفراغات التي بين الحجارة. أحسّ أحدهما بالغيض فاستلّ موسى و همّ بالزّحف لكن الآخر تشبّث به و كتم أنفاسه حتى لا يفتضح أمرهما.
حاول حامل السكّين التخلّص بكلّ قواه لكن صاحبه كان أقوى و أضخم جمّده حتى صارا كجلمود مصمت.
و أبومرود خلفها يلهث، صكّته بقدمها بما أوتيت من قوّة على خصيتيه فانطلقت رصاصة فجّرت رأسها! ضغط الضخم على حامل السكين كأفعى البواء لما تتمكّن من فريستها.
هرع الحارس الذي عند السيارة فألفى زميله جامدا سرواله تحت الركبتين. و المسدس في يده شاخصا لا يتحرّك. صفعه صفعتين فسقط المسدس و خرّ باكيا.
أوقفه ،احتضنه و وضع رأسه على كتفه وألبسه سرواله ثم قاده رويدا رويدا الى السيارة. أعطاه جرعة ماء و مسح ما تعلّق به من غبار و رذاذ دماء. و جلسا في السيارة صامتين ردحا من الزمن.
سأل زميله:
- لماذا ؟
- العاهرة! ركلتني !
- تقتلها!؟
- خرجت الرصاصة رغما عنّي.
-ابق في السيارة، سوف أتفقّد الموقع.
نزل بعد أن تأكّد من أن مسدس زميله معه . من يدري ؟
أمضى وقتا ليس طويلا ثم رجع .
- اسمع جيّدا ! هذه روايتنا.
- شكرا!
- كنّا بصدد البحث عن فارّين من المحتشد . لمّا قادتنا الآثار الى المصنع القديم. ما إن اقتربنا حتى سمعنا طلقا ناريّا. فأطلقنا صفّارة الإنذار و هرعنا إلى الموقع. لمّا وصلنا رأينا أحد الفارّين . فاطلقت أنت عليه عيارين و لم تصبه و أصاب أحد الطلقين المرأة دون قصد منك.
- انا أطلقت عيارا واحدا!
تجاهله:
- سوف أحملك إلى بيتي .خذ حماما و استرح ريثما أعود إلى الموقع لإحكام ترتيبه.
عاد الزميل الى الموقع و جال فيه فلاحظ أنّ الآثار تبدّلت. شك في الأمر، سحب مسدسه من القراب و جعل يقلّب كلّ ركن بحذر كمن يبحث عن أفعى حتى وقع على الضّبّين.
خرج الضّبّ الضّخم وهو يرتجف و جثا على ركبتيه و قد بلّل سرواله خوفا من أن يطلق عليه النار.
لكن الضّبّ النّحيف بقي ممدّدا بلا حراك.
صاح فيه الشرطي آمرا إيّاه بالخروج أو يطلق عليه النار لكنه لم يصدر أيّ حركة.
ركله بحذائه فوجده جثّة هامدة. التفت إلى الضّبّ الضّخم شاهرا مسدسه. فتكلّم الضب:
- لقد قتلته !
- لماذا و هو صديقك؟
- لم أكن انوي قتله ، و سكت ثمّ واصل، لقد رأينا كل شيء...رأينا زميلك وهو يقتل أختي، هذا زوجها ضغطت عليه كي لا يفتضح أمرنا. صدّقني لم أكن انوي قتله و أجهش بالبكاء.
ومضت عينا الشرطي و لعبت في راسه فكرة!
- اسمع ما وقع قد وقع، إن قدّمت لنا الإعانة، سوف نعاونك.
أطرق برهة:
- كيف؟
- هل عندكم مسدس؟
- لا ! نحن قطعنا البحر طلبا للعمل و ليس لقتل الناس.
- لا يهمّ ، عندي واحد صادرته من أحد مروّجي المخدّرات. وأطلقت سبيله هو مخبري.
جعل يبكي :
- هل ستقتلني؟ هل ستقتلني؟
- يكفي من التمثيل. سوف أساعدك على الحصول على أوراق إن التزمت بما سأقوله لك.
- قل !
- سوف تحمل صديقك إلى النافذة و سوف أطلق عليه النار من المسدس المصادر. و أنت سوف تقول أنّك رأيت زميلي يطلق على صديقك النار مفهوم!
- هل أنت متأكّد من الوفاء بوعدك في خصوص الأوراق؟
- هذا وعد! و صافحه.
حمل الضّبّ الجثّة قرب النّافذة و دعّمها بعمود خشبيّ تحت المؤخّرة كأنّ صاحبها يتوجّه صوب النافذة قصد الهروب. أطلق الشرطيّ النّار على الجثّة من الخلف في مستوى القلب ثمّ وضع الأصفاد في يدي الضّبّ الضّخم واقتاده إلى السيارة .
أغلق عليه و عاد إلى الموقع. سحب سكينا متعدّد الإستعمال . قلّع الرّصاصتين و بدّل موقعيهما بحيث ثبّت كلّ واحدة مكان الأخرى في الحائط ثمّ عاد إلى السيارة، وانطلق. مرّ ببيته حيث ترك زميله فوجده قد وضّب نفسه. فهو لم يحمل زميله إلى منزله كي لا تكتشف زوجته الكارثة فزميله متزوّج وهو أعزب.
تعجّب بومرود من وجود الضبّ. فطمأنه زميله و اتّفقوا على الرواية أمام المحقّق.
عادوا إلى المصنع . و أخبر الزميل المخفر عن وقوع جريمة قتل في المصنع القديم و هما يطوّقان المكان و يحرسان موقع الجريمة.
حضرت سيارات الشرطة يقودها رئيس المركز. بعد المعاينة و الاستماع إلى الرواية التفت إلى الضّب و سأله فلم يجب بكلمة كما أوصياه .
وصل المحقّق، بل المحقّقة ،هي امرأة ممشوقة تضع معطفا " تروا كار" و سروال دجين مطّاطي يبرز قوامها و حذاء جلديا طويلا ذا كعب عال تتهادى كمهاة. على رأسها قبّعة نسائية عادية و نظارات شفّافة بإطار أسود يحدّد عينين شهلاوين واسعتين. ربطت شعرها الكستنّائي ذيل حصان انسدل على ظهرها حتى الغمّازتين.
استمعت إلى رواية الشرطيّين الشريكين و أمرت بإيقاف الضّب على ذمّة التحقيق. ثمّ دخلت للمعاينة فوجدت أعوان الشرطة الفّنية قد سبقوها و قدّموا لها تقريرا على الوضع. عاينت الموقع وكشفت عن الجثّتين. رجل و امرأة من المهاجرين غير الشرعيّين في مقتبل العمر . المرأة اخترقت الرصاصة رأسها من الخلف. دخلت من المخيخ و خرجت من العين اليسرى و سكنت في أسفل الحائط. و الرجل اخترقت رصاصة صدره من الخلف و استقرت في الحائط، أيضا.
فحصت المخبأ و أخذت بجوّالها صورا من داخله. مدت يدها إلى الداخل و أخذت صورا في اتجاهات مختلفة . أنارت فانوس الجوال و حرّكته في جهات مختلفة فوقع الضوء المتسرّب عبر فجوات الحجارة على الكردونة و على النافذة لكي تتأكّد من أن الضّب شاهد فعلا الحدث.
لما خرجت من المصنع القديم وجدت الصحفيّين في انتظارها. فأدلت بتصريح أنّ ثلاثة مهاجرين غير شرعيّين فرّوا من المحتشد رجلان و امرأة و أن أحدهما اغتصب المرأة و قتلها بينما كان رفيقهما نائما. لمّا سمع الشرطيان إطلاق النار حضرا بسرعة و أطلق أحدهما النار على الجاني وهو يحاول الهرب عبر النافذة.
عادت إلى المخفر وبدأت التحقيق. التزم الضّبّ الصّمت ولم يتكلّم حتى كلّفت جمعيّة محامين بلا حدود محاميا للدفاع عنه.
عرض المحامي صفقة أن يتحدث موكله كشاهد و أن يتمّ إخلاء سبيله بعد انتهاء التحقيق مع وعد بتسوية أوراقه بعد قضاء إقامة وقتية أو يحتفظ بشهادته و يترك البلد أمام مواجهة احتجاجات المهاجرين شرعيّين و غير شرعيّين تنديدا بقتل الشرطة لمهاجريْن بكل برودة دم و ما يتبع ذلك من مسيرات في بلديهما و ما سوف تتعرّض لها مصالح البلاد في مختلف بلدان جنوب المتوسط و الصحراء من مقاطعات ومسيرات لا يمكن التحكّم فيها و ما سوف يمسّ سمعة بلاد القيم الإنسانيّة من ضرر جرّاء تغاضيها على الجرائم العنصرية و تغذيتها للكراهية بين الأديان.
بعد مفاوضات عسيرة مع السلط و قاضي التحقيق تمّت الموافقة على طلب الدفاع.
أدلى الضّبّ الضّخم بشهادته فكانت موافقة لتقرير الشرطيّين. بعد قضاء مدّة الاحتجاز تمّ إيواؤه في أحد مراكز الإيواء مع التزام بعدم مغادرة المدينة حتى يتمّ الفصل في القضيّة. و تحمّل الشرطيّين مسؤولية مراقبته.
وصل إلى المحقّقة تقرير الطّب الشرعي الذي وافق رواية الشريكين و الضّب سوى أنّ مجرى كل رصاصة في الجثّتين لا يتطابق مع الرصاصة التي يفترض أنّها اخترقته و أنّ كل رصاصة منهما تتطابق مع مجرى الأخرى.
اتصلت المحققة فورا بالطبيب الشرعي الذي أجرى التشريح فأكد مجرى الرصاصة في كل جثة و آثارها و بيّن لها أنّ احتمال الخطإ باختلاط الرصاصتين عند وصولهما الى المختبر مستحيل . والمحققون يتّبعون إجراءات صارمة و هم ذوي خبرات عالية في المجال . فالجثّتان يتمّ تصويرهما بالرنين المغناطيسي قبل التشريح لأخذ صور دقيقة رقميّة عن كامل البدن خارجيّا و باطنيّا . أمّا مطابقة الرصاصة للمجرى فهذا من اختصاص فرع المقذافيّة في الشرطة العلميّة . كما أكّد لها ما ورد في التقرير حول السائل المنويّ في فرج الضّحيّة حيث أكّد وجود سائلين لذكرين مختلفين لا يرجع أيّا منهما للقتيل. و شدّد على سبب موت الذّكر الخنق و كسر في القفص الصدري و ليس الرّصاص. لقد أُطلِقت عليه النار من قرب بعد أن فارق الحياة. و هذا سهل التّوصّل إليه، إذ أنّ مجرى الرصاصة لا يحمل أثرا لدماء متدفّقة فيه جرّاء النّزيف الذي يحدثه مرور الرصاصة، حيثما مرّت يملأ الفراغ الذي تتركه خلفها الدم عندما يكون المصاب حيّا. وإذا كان ميتا تمرّ الرصاصة مرّ السكين في اللحم نظرا لتوقّف الدورة الدموية.
-إذن القتل سابق للرصاصة كما ذكر التقرير.
- عفوا آنستي! التقرير لم يقل قتل بل قال موت. عملي يبحث في أسباب الموت و لا يتدخل في تحديد القصد. ذاك عملكم.
توجّهت بعد لقائها مع الطبيب الشرعي إلى مختبر الشرطة العلميّة الذين أكّدوا لها ، و ذلك باستعمال حواسيب متطوّرة تحاكي الوقائع ،ما ورد في التقرير حول عدم مطابقة كل رصاصة لمجراها .
فرصاصة سلاح الشرطي أثخن و أثقل من رصاصة السلاح الآخر بحيث تطبع كل واحدة منهما مسلكا يناسب حجمها و وزنها و الجسم المخترق و زخم حركتها الذي تحدّده المسافة و قوّة السلاح . لو أعطينا لكل رصاصة مسلك الأخرى لحصل توافق.
عادت إلى مكتبها فوجدت إرسالية قد وردت من بلد الضّبّين تبيّن أنّ الضبّ الضّخم هو زوج القتيلة و أنّ القتيل أخوها. عكس ما شهد به الضّب.
طلبت المحقّقة الشرطيين وواجهتما بتقرير الطب الشرعي و المقذافية لكنّهما تمسّكا بروايتهما.
طلبت استدعاء الضّبّ الضّخم من جديد فلم يعثر له على أثر.
طلبت مقابلة وكيل الجمهورية الذي استدعى الشرطيين في جلسة سرّية و ضغط عليهما و تمسّكا بما ورد في التقرير . سحب منهما المسدسات الحكومية و الشارات و البطاقات المهنية و وأوقفهما عن العمل.
اجتمع وكيل الجمهورية و المحققة مع رئيس شرطة المدينة الذي أكّد على نقاء سجلّ العونين و تفانيهما في العمل. طالبت المحقّقة بخضوع العونين لفحص السائل المنويّ. غضب رئيس الشرطة و اعتبر هذا تشكيكا و اتّهاما لجهاز الأمن كلّه. طلب وكيل الجمهورية من المحقّقة مواصلة التحقيق في القضيّة.
من الغد حضر إلى مكتب المحقّقة مروّج المخدرات صاحب المسدس و أدلى بأقواله. اعترف أنّه هو من هرّب المرأة و زوجها و أخاها من المحتشد و خبّأهم في المصنع القديم. فأصله من بلادهم! و أنّه راود المرأة و أقام معها علاقة .
لمّا أحسّ و هو في منتهى النّشوة بيد تسحب المسدس من جيبه . ارتمى جانبا فأصابت الرصاصة رأس المرأة و تشابك مع أخو الضّحية. أمسك بيد كوع اليد التي تحمل المسدس و خنق بالأخرى. و لمّا رأى زوجها يخرج من تحت كومة الحجارة ضغط بشدة على رقبة القتيل فهوى ثم ألقى عليه حجرا أصاب صدره و قفز من النافذة. سمع بعد ذلك وهو يعدو هاربا طلقا ناريّا، واحدا.
أغلقت المحقّقة المحضر على أنّ السائلين المنويّين في مهبل المرأة يعودان لزوجها و لمروّج المخدّرات. وأنّ القتيل قتل أخته انتقاما للشرف المدنّس ليمحو العار الذي أصابه بارتكابها فعل الزّنا. أمّا قتله فكان نتيجة عراك جدّ بينه و بين قاتله مروّج المخدّرات الذي خنقه و حطّم قفصة الصدري .
أمّا الشرطي بومرود فهو بريء من تهمة القتل على وجه الخطإ لأن القتيل كان يحمل مسدسا عندما رآه فكان إطلاق النار دفاعا عن النفس و في إطار القانون.
أما بخصوص التلاعب بالأدلّة في مسرح الجريمة فلا يمكن إثباته لأنّ المحكمة لا تأخذ الدّليل الإفتراضي حجّة قاطعة إنّما كقرينة ضعيفة شهادة الحاسوب. ولذلك يتمّ سحبه من ملفّ القضية.
وأحالت الملفّ على دائرة الإتّهام.
أغلقت المحقّقة باب مكتبها و جلست على الأريكة ممسكة رأسها و هي تبكي من عجزها على إماطة اللّثام عن المجرمين الحقيقيّين و ذلك لتفشي الفساد في الأجهزة حولها و تقاطعه مع الجريمة المنظّمة و أشدّ ما آلمها ضعفها أمام الآلة الرّهيبة التي تتحّكم فيها.
تمّت إحالة مروّج المخدّرات بتهمة القتل النّاتج عن عراك مع القتيل و بتهمة مساعدة المهاجرين غير الشرعيين كما تمّ إصدار بطاقة تفتيش في الضّب الضّخم و إحالته بتهمة تضليل العدالة و شهادة الزور .
تمّ إرجاع الشرطيّين الى سالف وظيفتيهما مع الترقية و التوصية بالشكر من أعلى هرم السلطة.
(جمال الطرودي/ تونس)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق