الجمعة، 30 أكتوبر 2020

 .............

رياض انقزو

............



قصّة قصيرة

شال أمّي

كنت أرسم اللوحات وألتقط الصوّر. اللوحات، كما الصوّر، أستمدّ عناصرها من مخيّلتي. والآن تحوّل ما رسمت إلى واقع تهيمن عليه العتمة المنفتحة على الانكسار والمجهول.

الوحدة رغم زحمة الأمكنة، والعيون المحدّقة في شيء من الوجع،الحنين إلى وجه أمّي الذي غزته الأخاديد والى أبي ينفث دخان غليونه وهو يجلس القرفصاء، والى موظّفي الإغاثة يقدّمون بعض المساعدات، إلى توقّف الزمن كدواليب الطواحين القديمة.

اللوحات والصور منفتحة على كلّ شيء وعلى اللّا شيء .على ذكرياتي وأنا تائه بين الخيّام، على طابور النسوة ينتظرن صهريج الماء، على الروائح المنبعثة من أجساد الأطفال ومن دورات المياه، على أحلام لا تلبث أن تتحوّل إلى كوابيس مدوّية كقصف المدافع والطائرات، على ذاكرتي المثقوبة يسقط منها الزمن سنة فسنة ثمّ سنة. أغوص في لوحات وأجهد نفسي لتذكّر ما حدث.

يومها دوّت صفّارات الإنذار. وما لبثت الأرض أن بدأت تهتزّ تحت أقدامي، والجدران تتهاوى كأنّ النعاس انتابها قبل أن تنتشلني أمّي ثمّ تغيب.طالت غيبتها، ولم أرها إلى اليوم.

كنت قد رفعت عقيرتي بالصيّاح وأنا أسأل عون الإغاثة: أريد أمّي... أين هي أمّي؟ أين ذهبتم بها؟ أنا أحب قهوتها...أحبّ رضاها وحتى سخطها...أنا ابنها ...أنا...بقي عون الإغاثة صامتا تنبعث من عينيه نظرات مأساويّة لا لون لها، باهتة خاليّة من كلّ قيمة ضوئيّة، في الوقت الذي سلّمني إلى ممرّضة كانت قريبة منه. سارعت الممرّضة بفتح حقيبة بيضاء عليها صليب أحمر.حقن، حبوب، مراهم، ضمادات، وبعض الخيوط الطبيّة. قدّمت لي بعض الإسعافات، ثمّ مسكت بيدي وقالت: لنذهب...هيّا...لنذهب

- إلى أين ؟ قلت

- إلى حيث يمكن أن نجد أمّك. ألا ترغب في رؤيتها؟

- بلى، هي قريبة منّا إذا؟

كنت أشعر بشيء من الطمأنينة، ولكن...

سرنا معا، الممرّضة خلف سائق سيّارة الإسعاف وأنا بجانبها أحضن شال أمّي وحذاءها والكأس المفضّل لديها لشرب القهوة. تقدّمنا في شيء من التثاقل نشقّ الركام والدخان المنبعث من بقايا البنايات يتردّد بينها غنائي:

أحنّ إلى خبز أمي

وقهوة أمّي

ولمسة أمّي

كنت أشعر بأنّنا كلّما رفعت صوتي أكثر بالغناء نحثّ الخطى ونترك أتربة منزلنا خلفنا.

وصلنا ساحة شاسعة على أطراف المدينة الفوضى تعمّها والخيام موزّعة في آخرها . الجلبة تمتزج بأنين بعض الأطفال والشيوخ من الجرحى. صيحات فزع تنذر من الغربان المنتشرة في السماء وهي التي لم تخل بعد من الطائرات الحربيّة. توجّست خيفة، وحاولت التحرّر من الممرّضة ، لكنّ قبضتها على كفّي ازدادت إحكاما. كان الشعور بالخوف قاتلا...

-أين أمّي؟ لماذا لم نرها ؟

وقفت قبالة الممرّضة صارخا باكيا قاطعا الطريق أمامها.

الفراغ يكتنفني ويكتنف عمق اللوحة. الحركة منعدمة، الألوان ممتزجة في غير تناسق، العتمة تهيمن على كلّ الأبعاد.

ازدادت العتمة وتحوّلت إلى سواد عندما سلّمتني الممرّضة لرجل تبدو ملامحه غير ملامحنا. مسك بيدي المنشغلة بالحفاظ على أشياء أمي. قادني نحو وجهة أجهلها. مع أول خطوة سقط منّي شال أمّي وحذاؤها. التقطتهما الممرّضة من ورائي وقد تناهى إلى مسمعي صوت بكائها. توقّفت، التفتّ ورائي. كانت تبكي وتظمّ ما التقطته من ّكرياتي إلى صدرها وتنظر إلي بنظرات فيها الكثير من الكلام الذي لم أوفّق في فكّ شفرته حينها.

واصلت طريقي والرجل إلى آخر الساحة. دخلنا خيمة اكتظت بأطفال في سنّي. فحصني الطبيب المتواجد بينهم ن ثمّ تبادل الحديث مع الرجل المرافق لي بعدما وضع بمعصمي أسورة تحمل رقما. ومن تلك اللحظة نسيت اسمي. أودعني خيمة أخرى.

- هنا ستقيم قال لي.

غاب الرجل وغابت ملامحه عن لوحتي مع كلّ خطوة يخطوها بعيدا عنّي كما غابت الممرّضة ومعها أشياء أمّي. وتبدأ الآن مرحلة جديدة من مأساتي.

شققت طريقي بين الخيام أتصفح وجوه النسوة. توقّفت عند إحداهن وهي تحضن ابنها. ذرفت الدموع ، ثمّ علا صراخي و أنا أنادي أمّي باسمها. كنت اشعر أن الصوت يرتدّ إلى داخلي ويتكوّر بحلقي حتّى يكاد يخنقني. أملي الوحيد الآن هو أمّي. اقتربت منّي المرأة، كفكفت دموعي لتتساقط دموعها وضمّتني إليها. شعرت براحة كم كنت في حاجة لها. لم أرفض حضنها ولا أصابعها وهي تقع على وجنتيّ بردا وسلام. سألت في حيرة بنبرة فيها الكثير من الرجاء:

- خالتي أين أنا؟ أين أمّي؟

-أنت بين إخوتك و والديك، كلّ الذين من حولك عائلتك.

كانت تخفي عنّي أمرا ما، لعلّها كانت تخفّف عنّي. رأيت ملامحها تخفي تشي بالكثير من الألم والضياع.حسين أستعيد قدرتي على الكلام لديّ الكثير من الأسئلة.

في صباح اليوم التالي مسكت فرشاتي وهممت بالرسم إلا أنّني لم أقدر على ذلك. الأسورة التي وضعوها بمعصمي تؤلمني وتشلّ حركتي. لا أعرف ماذا أصابني. أنا عاجز عن الحركة وحتّى عن تذكّر ملامح أمي. الرقم المنحوت على الأسورة أفقدني هويتي.

من خلف الخيمة انبعثت خيوط الشمس حارقة. انعكست على الأسورة بمعصمي وحوّلت الرقم إلى وشم بذاكرتي.يا الله ! ما الذي يحدث؟ أنا الذي كنت أمقت ما يرسم على الأجساد أصبحت أحمل وشما. ماذا أصابني؟ لم أصبحت لا أحسن الرسم؟ أين الممرّضة؟ مرّ يومان ولم تأخذني عند أمّي.

وقفت بشيء من التثاقل، قدماي عاجزتان عن حملي.لم أقدر على مغادرة الخيمة لألج الساحة الشاسعة التي آوتني بعد الغارة...ترى أمّي تفتقدني ، وتبحث عنّي هي الأخرى؟ أم هي منشغلة بوالدي؟ ولكن أين هو؟

أدرت وجهي نحو خيوط الشمس المنبعثة، وتهيّأ لي أنّ كلّ ظلّ منعكس على أرضية المخيّم هو ظلّ أمي. داس أحد المارة عند مروره أمام الخيمة ظلّا. انقبض قلبي، واندفعت أحتضن كلّ الظلال. ثمّ أبحث عن أشياء أمّي. لم أعثر إلا على الكأس الذي اعتادت أن تشرب فيه القهوة. ملأته قهوة وهممت بترشفها. ارتسمت ملامح أمّي على القهوة.ابتسامتها، بريق عينيها،تورّد خديها.حدّقت في قهوتي وصحت متوسّلا: "لماذا يا أمّي؟ لماذا لم تأتي بعد؟"

سكبت القهوة أرضا أغطّي الظلال من حولي. " أين شال أمّي؟" تذكّرت أنّه بقي عند الممرّضة وبقي معه آخر عهد لي بها. ذكريات مشوّشة فقط هي التي أحتفظ بها. ذكرياتي التي أستمدّ منها رسومي. مسكت بالفرشاة من جديد وبدأت اعبث بالقهوة المنسكبة خيّل لي أنّ الصورة بدأت تكتمل ولكن قبل وضوحها مرّت بجانبي سيارة إسعاف قيل أنها تحمل جثّة امرأة. شيعتها بنظري إلى أن لمحت شال أمّي معلقا بآخرها.

رياض انقزو

مساكن/تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق