الخميس، 30 أبريل 2020

...........................
Rabab Bader /Syria
..........

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏‏سماء‏، ‏‏سحاب‏، ‏شجرة‏‏‏، ‏‏شفق‏، ‏‏نبات‏، ‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏‏ و‏طبيعة‏‏‏

غربة الروح - قصة قصيرة

كان يجلس إلى بسطة تتكوّم عليها ملابس الأطفال ،غير مبال بما يحدث أمامه وكأنه قادم من عالم آخر ، أو أنّه استيقظ لتوّه من سبات عميق ، كان يجيب على أسئلة النساء بصوت واهن حتى أن إحداهن صاحت أنت لا تريد أن تبيع ، أليس كذلك ؟ أجابها بصوت بلغ أدنى درجات الضعف ، خذي ما تريدين وادفعي المبلغ الذي تريدين ، وضعت بعض النقود ومشت فرحة بالفرصة التي لن تتكرر أبدا في هذا الغلاء الفاحش . عندما بقي لوحده لم يستطع أن يكبح جماح دموعه فنزلت غزيرة تنفث بعضا من ألم استقر في أعماق الروح وخط خطوطه في وجهه المتعب ، هذه هي نهايتك يا محمود ؟؟ كيف يمكن أن تنقلب حياة الإنسان رأسا على عقب هكذا ؟ وكيف يمكن أن يموت الإنسان ألف مرة في اليوم ؟ صوت آخر سأله عن أسعار بعض الملابس القطنية ، لم يرفع رأسه فقد كان إحساسه بالألم قد بلغ أقصاه ، نظرت السيدة إليه وصرخت ،محمود ؟ غير معقول ؟ عندئذ رفع عينيه ببطء وبخجل فهاهو ذا من تعرّف إليه وما أن التقت العيون حتى انتفض بألم وانتفضت بدهشة كبيرة صارخة ماذا حدث ؟ أنها رشا صديقته وصديقة خطيبته أو بالأحرى من كانت خطيبته ...تململ في جلسته متناولا عكازه ثم وقف مترنحا ، وما أن رأت رجل البنطال الفارغة حتى احضتنته ودموعها تسيل مدرارا ، هكذا إذن يا عزيزي ، فقدت رجلك في حرب ضروس لم ترحم أحدا ، أجاب ليتني فقدت رجلي فقط يا رشا ، ما فقدته كان أكبر ، فقدت إحساسي بالحياة ، روحي ماتت ولا زلت أستغرب كيف يعيش الإنسان بعد موت روحه . صرخت لن أسمح لك بالموت يا محمود ، تعال كيف نغلق هذه البسطة فساعدها في إغلاقها ثم تأبطت ذراعه وسارا إلى المقهى القريب على الرصيف ، تدور في رأسها أحداث الماضي جميعه . كان محمود الأول على الدفعة وكان من المفروض أن يتعين معيدا في الجامعة ،لكن في سنين الحرب ضاعت المعايير في أيد من لا معايير لديه سوى المال .كان محمود يكتب الشعر ويلقيه بطريقة آسرة ، وقد كان محرّك مجموعتهم الرائعة التي تضمّ مختلف الاختصاصات ، قبل أن يفترقوا كلّ إلى مصير لا يقل مأساوية عن الآخر ، فمنهم من سافر ومنهم من مات ومنهم من علق في مصيّدة الحرب .وصلا إلى المقهى وكل منهما لا زال ضائعا في أفكاره ، طلبت القهوة وأخذت تنظر إلى حطام رجل كان ذات يوم حلم الكثيرات بجمال روحه ووسامته وشهامته . ما أن حضرت القهوة حتى قالت حدّثني ، كيف فقدت رجلك ؟ تلك النظرة التي تحمل كل آلام الدنيا مجتمعة لن تفارق ذاكرة رشا أبدا ، بصعوبة بالغة تمكنت من كبح دموعها . قال كنّا نحارب وفجأة انفجر لغم تحتي ففقدت الوعي وعندما استيقظت في المشفى لم تكن رجلي موجودة، فقد بترت من الفخذ ، سّرحوني بدون أية تعويضات وكما تعرفين ليس هناك مسابقات تثبيت ولا أمل ببعثة وخصوصا بعد أن فقدت رجلي ، لكن ما قصم ظهري أن ديما تركتني، حتى أنها لم تزرني في المشفى ، تزوجت وسافرت إلى تركيا .
- لا أكاد أصدق ، كانت تغار عليك من النسيم ، وكنا جميعنا نخاف من نظرتها الغاضبة إذا تمادينا في المزاح معك .
- هذا ما حصل ، فجأة رأيت نفسي وحيدا في لجّة عميقة لا قرار لها ، أتنفس ألما ، أنام وأستيقظ بالألم ، وحدها نظرة أمي الحانية كانت تبلّسم جروحي . والدي أصبح مجرد عود يابس سينقصم عند أوهى هبّة ريح ، أخوتي لا زالوا في المدارس والمصاريف ترزح تحتها قاماتنا . عمّي هو من أمدّني ببعض المال لشراء البسطة وبعض ملابس الأطفال . تألمت رشا وبدأت هي الأخرى تسرد له شيئا من حياتها .
-استدعي زوجي إلى خدمة العلم أيضا بعد زواجنا بثلاثة شهور والآن لدي ولدان في الرابعة والخامسة ولم يسرّح بعد ، يأتي في إجازة كل شهر أو شهرين ، أيضا ليومين أو ثلاثة فقط ولولا الصيدليّة لمتنا جوعا لكنها تدرّ ربحا معقولا .لا أعرف من ائتمنه على الصيدليّة وإلّا لتفرغت قليلا للأولاد . ثمّ صاحت للفكرة التي خطرت لها للتو،
- اسمع لن تفتح البسطة ثانية ، ستعمل معي في الصيدليّة فأنا منذ الصباح أجرجر الأولاد معي،وما أن أغلق الصيدليّة حتى يكونوا قد ذبلوا كالزهور فأجرجرهم في العودة إلى المنزل . ستفتحها أنت صباحا وبعد أن يستيقظ الأولاد ويأكلون سأوافيك ونعمل معا . لا تقل شيئا ، سأرتاح كثيرا بعملك معي . ابتسم تلك الابتسامة التي سحرت ديما ذات يوم ، وظهرت بعض ملامح وسامته ثانية، وهكذا افترقا بعد أن أعطته عنوان الصيدليّة وعزمت على أن تدربه منذ صباح الغد.
عندما وصلت رشا مع الأولاد ، كان ينتظرها أمام الصيدليّة ، فتحت الصيدليّة ولم تضيّع وقتا ، أخذت تدرّبه على الأسماء التجارية للأدوية وتركيباتها والأدوية البديلة أو ذات التركيب المماثل وغيرها ، وخلال يومين أحاط بكل محتويات الصيدليّة وقد كان محمود قد تفوق في دراسة الكيمياء مما ساعده كثيرا في مجال عمله .
مضت الأيام وازدهرالعمل ،فكان الدخل جيدا إذ أن الفقر والمرض يسيران يدا بيد والدواء مطلب الجميع ، وكان أسامة زوج رشا يأتي ويمضي وقتا مع محمود في الصيدليّة في إجازاته القليلة فقد كانوا أصدقاء أعزاء من أيام الجامعة ولقد كان سعيدا لأن رشا عثرت على من يساعدها في العمل مما يخفف عنها السأم والتعب في غيابه وكان يأخذه معه لتناول العشاء عندهم فيستعيدون ذكريات الجامعة ويضحكون ثم يتبادلون الأخبار عن تلك الحقبة من عمر كل شاب في الخدمة العسكرية ويتندرون على مواقف حصلت معهم ، لكن الآن والحرب قد بلغت أوجها وبدأت تأكل أبنائها كما يأكل الغول ضحاياه، كانت حكاياتهم مرّة وحزينة .تبادلت الأسرتان الزيارات وامضوا وقتا هنيّا معا وصار أولاد أسامة لا يهنأ لهم بال إلّا بزيارة أخوة محمود واللعب معهم ، وحدث أمر مهم جدا في حياة محمود فقد تعرّف من خلال أحد المندوبين بمن ساعده في الحصول على رجل اصطناعية واحتفلت العائلتان بهذا الحدث السعيد ، فمحمود الآن يمشي كباقي الناس ورجعت ثقته بنفسه وبالحياة ثانية . سافر أسامة وكعادتها رشا تحتاج إلى أيام لتعود إلى طبيعتها المرحة ، وإذا رنّ الهاتف ليلا ،جمدّها الخوف. في يوم لم تأت إلى الصيدلية وحدث هذا عدّة مرّات لكنّها كانت تتصل لتخبره بأنها ستزور بيت عمها أو أخت زوجها ،كان يوم الأحد وهم يغلقون الصيدليّة يوم الجمعة، والسبت صدف أنه عطلة فلم تفتح إلّا الصيدليات المناوبة. بدأ العمل ومع تقدم الوقت كان قلقه يزداد ، ماذا يعمل ؟ لم يعد يستطيع التحمل أكثر ، اتصل إلى بيتها لكن لا مجيب ، بحث عن رقم بيت حميها واتصل ، أيضا لم يكن هناك من مجيب ،ازداد قلقه مع تقدم النهار . أغلق الصيدليّة مساء كالعادة وغادر إلى بيته ، لم يستطع الهدوء فقد أصبحت وزوجها وأولادها جزءا من حياته ، وعندما ضغط رقم هاتفها ، أتى صوتها بعيدا باكيا . ماذا هناك ؟ ماذا حدث ؟ صرخ بصوت خائف .
- استشهد أسامة في كمين ولم يحضروا جثمانه . ونحن نقوم بواجب التعزيّة في صالة الجامع ،جمدّه الخوف وربط لسانه ولم يتمكن من النطق ، لكنها تساءلت إذا كانت تستطيع أن تترك ولديها عند أهله ، اتفقا على أن يمرّ إلى بيتها صباحا فيصطحبهم إلى بيت أهله إلى أن ينتهي العزاء. في الصباح التالي أخذ سيارة أجرة ، وعندما فتحت له رشا الباب بكى لمرآها وبكت هي ألما ، أخذ الأولاد إلى أهله وفتح الصيدليّة إلى الظهر ثم ذهب ليقدم التعزيّة لأهل أسامة ويبقى معهم لبعض الوقت . انتهى العزاء ولم يكن من اليسير أن تستعيد رشا صفاء نفسها وهدوءها ، لكن تدريجيّا وبمساعدة محمود وأهله وأهل زوجها هدأت قليلا لكن أبى الحزن أن يغادر عينيها وروحها . رفضت أن تسافر إلى أهلها في كندا إذ أنها عندما طرحت فكرة سفرها أمام بيت أهل زوجها ، رفضوا أن تأخذ الأولاد معها ، فكيف تسافر أمّ بدون أولادها ؟مضت ثلاث سنين على استشهاد أسامة ، لكن محمود بشهامته وطيب أخلاقه وحبه لأبنائها استطاع أن يخرجها من صمتها وحزنها . طوّر العمل في الصيدليّة ووظف خبرته في تركيب مواد تجميليّة لاقت رواجا كبيرا ، وذات مساء أغلقوا الصيدليّة ، لكن الأولاد أصرّوا على الذهاب مع محمود، فرضخت تحت إلحاحهم جميعا في الذهاب معهم ، كانت أمسية جميلة ، فالقلوب قد تآلفت وأعينهما التقت أكثر من مرة فتعانقت روحاهما، وفي اليوم التالي توجه دون أن يخبر أحدا إلى بيت أهل زوجها وطلب يدها منهما، لم يترددا في الموافقة . توجهوا جميعهم إلى بيت محمود وعند مرآهم ارتبكت ، فهتف محمود ، هل تقبلين الزواج مني يا من أحييت قلبي وداويت جروحي ، تلعثمت واحمر خداها وبيده عمّها ألبسها هديته ، أما الأولاد ففرحتهم كانت لا توصف .
Rabab Bader /Syria
April 25 / 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق