.................
عبده داود
..............
كونوا أنتم،
قصة قصيرة
31.5.2021
رغب طائر الحجل، أن يقلد مشية أحد الطيور ويمشي مثله بتفاخر وزهو... حاول، وحاول مرارا... لكنه فشل، ملأ قلبه الحزن... فقال اتعلم أن أمشي مثل الحمامة، هي وديعة ناعمة، تمشي بأناقة، والجميع يحبونها، وأخذ يتمرن محاولاً تقليد الحمامة، لكنه فشل ايضاً بذلك...
فقال أعود إلى مشيتي الاصلية التي خلقني بها ربي وأرضى بنصيبي وقدري...المشكلة التي حصلت غير المتوقعة، الحجل نسي مشيته الأصلية، وصار يحجل، ولا يزال يحجل حتى الساعة...
وهذا ما حدث مع السيدة فتنة بطلة قصتنا اليوم...
السيدة فتنة تجاوزت السبعين في العمر، كانت لا تحب شكلها بعدما بدأ العمر يظهر عنوانه عليها...كانت تصلي بحرارة، وتذرف الدموع السخية، وتسأل الله، أن يعيد لها شبابها...وتقول: أنا أؤمن بقدرتك يا الله، أنت قادر أن تحي العظام وهي رميم...
آنذاك لم يعد في هاجسها سوى أن يعيد الله لها شبابها وتعود إلى عمر العشرين...
صباح ذات اليوم، نهضت من السرير، أحست برشاقة حركتها، لم تشعر بها من أمد بعيد، نشيطة، قوية، لا تشعر بألم في جسدها، وأدهشتها يداها، نضرتان لا شيخوخة تبدوان عليهما، ناعمتان بدون أية تجاعيد، هرعت إلى المرآة شهقت، مذهولة، وابتسمت، وقهقهت بفرح مجنون... ونظرت إلى السماء مغتبطة شاكرة... وقالت يا الله ما أعظم أعمالك... فعلاً هذه أنا عندما كنت في العشرين من عمري... لقد رجعت جميلة، ساحرة، فاتنة، تماماُ، كما كنت في ذاك العمر...
آنذاك، جميع الشباب كانوا يتمنون رضائي... كنت أجمل صبايا الجامعة... لكن أنا لم يكن يعجبني من الشباب غير حبيبي حسان الذي مات وتركني... كم حزنت عليه وكم بكيت الماً وحزناَ، لأنه غادر الحياة وتركني، وأنا أقسمت ألا اتزوج من بعده...
تذكرت موعد هام لها، فتحت خزانة ملابسها، قالت: يا ألهي جميع هذه الثياب لم تعد تناسبني... أنا الآن في العشرين من عمري... كيف أرتدي ثياب نساء السبعين...
هرعت إلى متجر الألبسة، واشترت، واشترت كل ما يناسب عمرها العشرين الجديد، أصحاب المتجر كانوا يعرفون مدام فتنة ويعاملونها باحترام ومودة، لكن هذه المرة استقبلوا صبية جميلة جدا، أحدهم أخذ يغازلها بلطف، وهي كانت تضحك بصمت، أخيرا ضحكت وسألتهم ألم تعرفونني؟ قالوا بصراحة لا...ضحكت وقالت أنا فتنة، أنا مدام فتنة، أنتم جميعاً أصدقائي...
ضحكوا ونظروا إلى بعضهم البعض مستغربين هذا المزاح الغريب.
آنسة فتنة لم تستغرب الذي يحدث... هم يعرفونها في السبعين. اليوم هي في العشرين، وهذا مستحيل...
جميع جيرانها، جميع اصدقائها، جميع الذين كانوا زملائها في العمل، في المقاهي، في الأماكن التي تتردد عليها، لم يتعرف عليها أحد...
فتنة عندها صديقة حميمة وكانتا في غاية الصداقة، منذ أيام الدراسة في الجامعة...قررت زيارتها لأنها الوحيدة التي ستتعرف عليها...
ذهبت اليها، قرعت الجرس، فتحت الصديقة الباب، ابتسمت وسألت نعم، بماذا أخدمك؟ قالت الصبية العشرينية، أنا صديقتك، أنا فتنة، الم تعرفينني؟
ضحكت الصديقة وقالت وما معنى هذه المزحة السمجة؟
قالت فتنة: اكيد لم تعرفيني...
اعتذرت وأرادت أن تغلق باب منزلها، وفعلاً انزعجت من تلك الصبية التي تمازحها بهذا الشكل السخيف...
قالت فتنة، ما بالك، نحن أصدقاء الجامعة، أنت صديقتي الحميمية، كما كان حسان المرحوم حبيبي ... ألا تذكرين؟
الصديقة ملأتها الدهشة والاستغراب...وعاودت النظر بتمعن في الصبية، وتساءلت قصة حسان لا أحد يعرفها، قصة مدفونة في الكتمان، وقد نسيها الزمان، وباتت منسية في بعيد الأعوام، كيف تعرفها هذه الشابة؟
حينها دعتها إلى الدخول، أرادت أن تعرف من أين حصلت هذه الشابة على اسرار طواها الماضي؟
سردت فتنة سرها العجيب لصديقتها الحميمة ذات السبعين عاماً وصديقتها الكهلة هذه في حيرة تتظاهر بانها مصدقة وهي غير مصدقة...
أحضرت الصديقة البوم صور الجامعة، فعلاً هذه هي فتنة ابنة العشرين عاما، هي ذاتها أمامي، فعلا هذه هي صديقتي...تعانقتا لكنه عناقاً فاتراً... قالت الصديقة حبيبتي فتنة، أصبحنا الآن من جيلين مختلفين، وأنت تبدين كحفيدة لي إذا اردت لصداقتنا أن تستمر عودي لعمرك، عودي إلى السبعين...
أحست فتنة انها من عالم آخر، من كوكب غير كوكب الأرض، وأدركت بأنها غير قادرة على الانسجام مع أحد. ولا أحد يريد أن ينسجم معها...
مشاكلها الكبيرة صادفتها بالدوائر الحكومية الرسمية والمصارف، كيف تثبت لهم بانها هي ذاتها فتنة ذات السبعين عاماً... تبدو الآن صبية في العشرين. وضعتها دوائر الأمن تحت مجهر المراقبة ليعرفوا سر هذه الصبية...
فتنة الجديدة عجزت أن تنسجم مع الشباب والصبايا في مثل سنها الجديد. من المحال ان تتقبل تصرفاتهم، وقصصهم، واستهتارهم، وبعادهم عن الأخلاق الأصيلة...
بينما هي فهمت الحياة، وصارت في السبعين، نضجت وصارت فاهمة واعية، كيف لها أن تتأقلم مع شباب ذو عقلية لا تتناسب مع عقليتها... هذا جيل مختلف...
اصدقاؤها تنكروا لها، ولم يعد أحد من اصدقائها الذين في مثل عمرها الحقيقي، يرغب في صداقة هذه الصبية مجهولة الهوية، فهي ليست بمثل اعمارهم وهم لا يحبون أن تكون صديقتهم صغيرة في عمر أولادهم أو حتى احفادهم...
طبيعي، كل جيل مع جيله يطرب...
عادت السيدة فتنة تصلي وتذرف الدموع من جديد، تطلب من الله أن يعيدها إلى سنها السبعين بعدما عجزت أن تعيش في سن العشرين...لكن الله لم يستجب لها هذه المرة...
انتحرت فتنة تاركة رسالة تقول فيها: لم تعجبني ذاتي، وعندما لبست ثوب غيري لم أعجب أحد... أرضوا بقدركم، وكونوا ذاتكم، تسعدكم حياتكم...
الكاتب: عبده داود