الخميس، 26 سبتمبر 2019

.................

    الهادي خليفة
الصويعي/ليبيا ...................
أدران لن تغسلها المياه
كان محمود يجلس على ناصية الشارع هو بعض جيرانه من الشباب بمنطقة الظهرة بطرابس, يتبادلون أحاديث شتى أغلبها يدور حول الحرب التي نشبت بين المانيا النازية وبعض البلاد الاوروبية, حيث قام هتلر بغزو تشيكوسلوفاكيا ووجه أرتال من الجنود الى حدود بولندة وأجتاحها, ثم أتجهت الجيوش النازية الى الشرق في أتجاهها الى الاتحاد السوفيتتي, وقامت جيوش المانيا بإحتلال فرنسا وتهديد بريطانيا العظمى, كان الحديث يتركز حول الموقف من هتلر, فالبعض يؤيده والبعض ينتقده, وكان المؤيدون يدافعون عن موقفهم من خلال موقف الحزب النازي من اليهود, فالعداء كان أزلي بين العرب واليهود حسب وجهة نظر المؤيدين وهم ينطلقون من مبدا عدو عدوي صديقي, أما المعارضون فكانوا يخافون من تأثير ذلك على الوضع بليبيا خاصة وهي تقبع تحت الاحتلال الايطالي الذي يحكمه حزب فاشي ليس بعيد فكريا عن النازية.
وتمضي الايام, ويتمحور العالم قطبين, قطب اطلق عليه دول المحور وتتزعمه المانيا وماوقع تحت يدها من بلاد, وحليفتها إيطاليا الفاشستية واليابان, وحلف تتزعمه بريطانيا ومستعمراتها التي لاتغيب عنها الشمس, ورغم وجود حوارات سياسية بين الفرقاء إلا أن أصوات المدافع كانت هي المسيطرة وصاحبة الكلمة العليا, وعرف الجميع أن الحلول السياسية قد وصلت الى طريق مسدود.
أنطلقت الجيوش شرقا وغربا تنشر القتل والدمار, وأمتلأت البحار والمحيطات بالبوارج والغواصات, أحتدم الصراع بين الفرقاء على السيطرة على المواقع الاستراتيجية, وانتشرت حمى التجنيد الاجباري لكل قادر على حمل السلاح, وطبيعي أن تتجه كل دولة الى مستعمراتها لتجييش الجيوش.
وانتشرت حمى الحرب لتأكل الاخضر واليابس, وأستحر القتل والدمار, لهذا كان الجميع في ليبيا يضع يده على قلبه من الخوف من أن تطاله هذه الحرب, خاصة وأن إيطاليا هي الاخرى حذت حذو الدول الاستعمارية وأصبحت تجيش الجيوش, فكان الاهالي ينصحون أبناءهم بعدم الخروج إلا للضرورة القصوى, فقد كانت فرق التجنيد تجوب الشوارع للقبض على كل قادر على حمل السلاح, وتصادف أن مرت سيارة عسكرية إيطالية بالناصية التي كان محمود يجلس عندها هو وبعض أقرانه من الجيران, فقد كانت المتنفس الوحيد لهم في هذه الاوقات العصيبة, ولم يخطر ببالهم مرور سيارة عسكرية بتلك الناحية نظرا لأن الناصية لم تكن تطل على شارع رئيسي بل كانت عبارة عن تقاطع زنقتين داخليتين بالكاد تمر منهما عربات مجرورة بالخيول أو الحمير, والتي كان أصحابها يبيعون بعض الخضراوات, أو يشترون أي شيء يمكن أن يبيعه السكان.
توقفت السيارة وقفز منها جنديان يحملان بنادق, حاول محمود ومن معه الهرب ولكن الموقف كان مفاجئا فلم يستطيعوا الهرب, وقفوا في مكانهم ونزل جنود أخرون وأحاطوا بهم وهم يحملون السلاح, وأمروهم بالصعود الى السيارة, حاولوا أن يتكلموا ولكن المفاجأة وصرامة الجنود عقدت ألسنتهم, فظلوا مشدوهين الى أن تقدم احد الجنود منهم ودفع أقربهم إليه بطرف البندقية ليركب السيارة, كان معهم أبن عم لمحمود صغير في السن فلم يتمالك نفسه عن البكاء, فلطمه أحد الجنود وقال له: أذهب الى بيتكم هيا بسرعة وإياك أن تقول كلمة, انطلق ذلك الولد على غير هدى ولم يلتفت الى أن غاب في أول منعطف, وتم أقتياد الثلاثة الباقين الى السيارة وكانوا محمود, وجارهم سعيد, وأبن خالته علي, وانطلقت السيارة.
بعد لحظات قدم من ناحية المنعطف الذي أنعطف إليه الطفل مجموعة من الرجال والنساء ومعهم الطفل وهو يشير بأصبعه الى المكان, ولكن المكان كان خاليا من أي أثر, أخذت بعض النسوة يلطمن خدودهن, ويبكين, ووقف الرجال حيارى, ولكن لامناص من العودة من حيث أتوا ممنين النفس بالذهاب الى مركز الشرطة لعلهم يجدون خبر عن أبناءهم.
في الوقت الذي وصل فيه أبومحمود وجارهم الى مركز الشرطة كانت بوابة احد معسكرات الجيش بضواحي طرابلس تفتح لتدخل منها سيارة عسكرية اتجهت مباشرة الى مبنى امامه ساحة ويقف ببابه جنديان يحملان السلاح, وقفت السيارة ونزل منها الجنود, وأمروا من بها من الشباب بالنزول, فنزلوا وهم يتلفتون يمنة ويسرى, وكانوا حوالى عشرة شباب من ضمنهم محمود, امرهم الجندي المسئول عن الدورية بالوقوف صفا واحدا, ونبه على بقية الجند بالانتباه, ودخل الى ذلك المبنى, وماهي إلا لحظات حتى خرج بصحبته ضابط إيطالي, وقف وعلى وجهه ابتسامة عريضة, جعلت ذلك الجندي يتمتم ببعض الكلمات ويشير الى أفراد الدورية, فألتفت إليه الضابط ورد بكلمة مقتضبة, جعلت ذلك الجندي يقوم بتحيته ويتأخر عن موقفه ليقف خلف الضابط.
تقدم الضابط الى صف الشباب وأخذ يتأملهم, والتف من ورائهم وعاد الى حيث كان واقفا, وأمر الجندي بكلمات سريعة فدخل الجندي وخرج وبيده سجل وقلم, وأخذ يسجل بيانات الشباب, كان السجل مكتوب عليه بالخط العريض الرقم 304, ولم يفهم الشباب شيئا مما يدور حولهم.
بعد الانتهاء من التسجيل سلم الجندي السجل للضابط, وعاد الى موقفه خلف الضابط, فقال الضابط بلكنة عربية: أنتم الان جنود كتيبة 304 وأنا آلامر, خذوهم, فتقدم الجندي نحوهم وقال: وراء در, داروا, وقال عادة سر, فساروا, دون أن ينبسوا بكلمة فقد الجمت المفأجأة ألسنتهم, استمروا في سيرهم الى أن وصلوا الى أمام خيمة كبيرة, ينبعث من داخلها ضؤ هافت, صاح الجندي قف, فوقفوا. ودخل الى الخيمة, وأخذ ينادي بالاسم, وكان أول الاسماء محمود, فلم يتحرك من مكانه الى أن تقدم أحد الجنود المرافقين لهم من الصف وقال: أين هو محمود, فقال بلهجة مرتعشة: أنا, فدفعه بقوة وهو يقول: أدخل أم أنك أطرش, فتقدم يجرجر قدميه ودخل الخيمة, وبعد قليل خرج يحمل بيده كيس من القماش الاخضر اللون (كت) يبدو مليء بأشياء, وهكذا توالى دخول وخروج الشباب الى أن اكتمل العدد, خرج عندها الجندي وأمرهم بالمسير, فساروا وهم يحملون أكياسهم على أكتافهم مطاطيء الروؤس, وتوجهوا الى خلف الخيمة الكبيرة, فشاهدوا مجموعة من الخيام متناثرة بأنتظام ولاحظوا بها بعض الحركة, ولكن همدت الحركة ما أن اقتربوا من الخيام, وقفوا أمام إحدى الخيام, فصاح الضابط بمن في الخيمة, فخرج شاب ليبي مهرولا ووقف أمام الجندي في حالة استعداد, فقال له: هؤلاء الشباب أصبحوا من فصيلك, فأرهم أين ينامون, وقفل راجعا هو وجنود الدورية.
تأملهم ذلك الشاب مليا ثم قال: أنا مصطفى أمر الفصيل, مالذي رمى بكم هذه الرمية, فأنطقت ألسنتهم من عقالها وكلهم يحاول أن يشرح كيف تم القبض عليه, لكن مصطفى قال لهم: دعونا من هذا الان أدخلوا الخيمة لتستريحوا وعندنا وقت للتعارف, فدخلوا وجدوا نحو عشرون شخصا بالداخل, كان البعض نائما البعض مستلقيا, والبعض الاخريجلس على بطانية عسكرية وكلهم يرتدون اللياس العسكري, ظلوا واقفين, الى أن قال لهم مصطفى: ليبحث كل واحد منكم عن مكان ليتخذه مرقدا.
كانت الساعة تقترب من الخامسة فجرا عندما سمعوا صوت البوق, فهب من في الخيمة واقفين, وأتجه اغلبهم الى خارج الخيمة, كان محمود ومن معه في حالة ضباع تام, فهم لم يغمض لهم جفن ليلتهم تلك, عاد بعص الذين خرجوا من الخيمة وبعضهم يمسح وجهه والبعض الاخر يضع الفوط على أكتافهم, وأصطف البعض لأداء الصلاة, ونظر أحدهم ناحية محمود وجماعته فوجدهم لا يزالون في أماكنهم, فقال لهم: قوموا لتغسلوا وجوهكم وستعتادون على هذا المكان, فقد مررنا بما تمرون به.
نهض محمود متكاسلا, وأستفسر عن دورة المياه, فضحك الرجل, وقال: دورة مياه, سمها ماشئت, إلا دورة مياه, أذهب لثالث خيمة عن اليسار وهناك سترى, وأنشغل لبعض شأنه, فخرج محمود من الخيمة وتبعه بعض الشباب الذين يبدو أنهم من النوع الذي لايسأل بل يأخذ الاجابات من تسآولات غيره.
دخل محمود ومن معه االى الخيمة المنعوتة لهم, فواجهته رائحة كريهة تزكم الانوف, وشاهد عدد من الحنفيات على الجانب الايمن من الخيمة, كل حنفية يتجمع عليها أكثر من شخص, وعلى الجانب الاخر لاحظ وجود تقسيمات بالخشب عبارة عن مراحيض, أبواب أغلبها كانت مواربة, وكانت كل حركة أو صوت  داخل المراحيض يتم التعليق عليها من الخارج, فشعر محمود والشباب بخجل شديد, لهذا تحاشوا الدخول الى المرحاض وأكتفوا بغسل وجوههم, لاحظ أحد القاطنين معهم بالخيمة أرتباكهم فتقدم منهم وقال: اسمي جابر من منطقة قرقارش, ولكن الى متى ستمسكون حاجتكم, فلابد من أن تنسجموا مع الواقع, كلنا خجلنا في البداية, أبتسموا له وشكروه ولكنهم لم يدخلوا الى المراحيض, وقبل أن يخرج جابر من دورة المياه, التفت إليهم وقال: بإمكانكم أن تفعلوها خلف إحدى الخيام ولكن أحذروا أن يراكم أحد الجند, وأبتسم لهم وخرج.
كان اليوم الاول شاقا بمعنى الكلمة, فهم لم يتأقلموا مع حياة الجندية, وكانت أولى المشاكل مع إفطار الصباح, فقد اعتقدوا أن الافطار كافيا, ولم يزاحموا زملاءهم, وبقوا في أخر الصفوف, لكنهم حينما وصل دورهم, لم يجدوا إلا فتات خبز’ وإناء كبير بقعره بعض المربى, وحلة أخرى بها بقايا بيض يبدو أنه مسلوق, أخذوا قطع من الخبز, وعافت أنفسهم المربي, وبقايا البيض, وعادوا الى الخيمة, فوجدوا زملاءهم الاقدم قد أرتدوا ملابسهم العسكرية وأحذيتهم, قال مصطفى مخاطبا محمود: هيا أسرعوا فإن بوق الجمع الصباحي على تمام السابعة ومن يتأخر سيتعرض للعقوبة, أشعلت هذه الكلمة في نفوسهم حماسة شديدة, فقاموا الى أكياسهم وأخرجوا منها البدل والاحذية وأرتدوها على عجل, وقد قام جابر ومصطفى بمساعدة بعضهم على تسوية هندامه.
وما أن انتهوا من ذلك حتى سمعوا البوق, فخرج الجميع يهرولون, وقد لاحظ محمود أول خروجه أحد الشباب, يتراجع الى داخل الخيمة وينزوي في الركن, فرجع إليه وقال: ماذا تفعل, فرد عليه: لن أذهب للجمع, فأنا لم أنم ليلة البارحة وسأختبيء هنا وأشار الى ركن مظلم من الخيمة, حاول محمود أن يثنيه عن قراره, خوفا عليه من العقوبة التي حذرهم منها مصطفى لكنه أصر فتركه وخرج الى حيث أجتمع افراد الكتيبة.
تم ضم المجموعة الجديدة للفصيل الثالث بالسرية الثالثة من الكتيبة, وبوشر في أخذ التمام الصباحي, وسرعان ماتم اكتشاف غياب أحد الشباب, وكان يدعي حسن العربي, وبعد مناداة الاسم لأكثر من مرة, أشار الضابط الى أحد العرفاء, فتقدم نحوه وبعد أداء الواجب, وجه إليه الضابط بعض الكلمات, أنطلق العريف على أثرها نحو الخيام مصطحبا معه جنديان, وماهي إلا دقائق حتى عاد العريف يتبعه الجنود وهم يجرون شابا تم ربطه بحبل ويرتدي ملابس مدنية, تقدم العريف من الضابط وبعد أداء الواجب العسكري, تأخر قليلا وجذب الحبل بقوة فترنح الشاب وسقط على الارض, تقدم منه الضابط ووضع قدمه على رأسه, وهو يقول: مبروكة أنت مبروكة, هارب من الدفاع عن وطنك, التفت محمود ناحية الواقف بجانبه وهو يتمتم: لاحول ولا قوة إلا بالله لقد حذرته, وأضاف ماذا يقصد الضابط بالدفاع عن الوطن, تمتم الواقف خلفه: يقصد إيطاليا طبعا, صاح أحد الجنود من الخلف : انتباه, فصمت الجميع.
تفرقت الكتيبة واتجه كل أمر سرية الى سريته ليجمعها ويباشر التدريبات, وكانت التدريبات تبدأ بالهرولة حول الساحة, ثم بعض التمارين الرياضية, ومن ثم الانتقال للتدريب على السلاح, فكه وتركيبه وكيفية استخدامه.
أما حسن العربي فقد أمر الضابط بأن يعاقب على فعلته بالعمل الاضافي, وكان أوله أن يتم تغطيسه في حفرة للمجاري, و إخراجه ليقف استعداد مدة التدريب, وكان يتناوب على معاقبته جنود السرية, شاهده زملاءه وهو يأخذ وضع الانبطاح ويزحف على مرفقيه وركبتيه, وكان الجندي المعاقب له يأتي من الخلف ويضربه بالحذاء العسكري على قدمه, فينتج عن ذلك إصابات مؤلمة بمنطقة الركبة, وكان إذا توقف عن الزحف ينهال عليه الجندي بالضرب بعصا كان يحملها بيده.
على تمام الساعة العاشرة تفرقت الكتيبة لتناول وجبة إفطار ثانية, فأنطلق المجندون مهرولين نحو خيمة المطعم, وهذه المرة كان محمود والشباب الذين قدموا معه بالامس في مقدمة الصفوف, فقد شعروا بالجوع خاصة بعد التدريبات التي أنهكتهم, نظر مصطفى إليهم وهو يقوم بتنظيم الصفوف وقال ضاحكا: لقد فهمتم اللعبة سريعا, رد عليه محمود: الجوع كافر,
كان الافطار عبارة عن كسرة خبز وقطعة من الجبن وكوب من الشاهي, تحلق المجندون جماعات أمام الخيام يتناولون الطعام ويتبادلون الاحاديث, وكان حسن العربي يتلقى العقاب في الساحة, فقال محمود مخاطبا مصطفى: هل من طريقة لمساعدته, ردعليه: سوف نرى بعد الافطار في الجمع القادم, وتشعب الحديث, قال جابر موجها حديثه لمصطفى وللبقية: يقولون أن الكتيبة ستنتقل الى موقع أخر, رد عليه أحد المجندين: تنتقل لأي مكان لم يعد يهمني, فنحن في حكم الاموات, تمتم بعض الحاضرين: تحرك من مكانك, ولا تفقد الامل المستقبل بيد الله.
سمعوا صوت البوق, فنهضوا مهرولين الى ساحة التدريب, ولكن بعضهم قام بتكاسل فقد أخذته غفوة, قال عنها جابر ذات يوم: احسدهم فأنا لا استطيع النوم إلا بجهد جهيد, وهم ينامون حتى ونحن وقوف, تجمعوا في الساحة, ولاحظ محمود أن مصطفى يقف بجانب أحد الجنود ويتحدث إليه باللغة الايطالية, فعرف أنه يكلمه على حسن العربي, وكان حسن يقف بطرف الساحة في حالة استعداد والدم يلطخ ركبتيه ومرفقيه, بعد أخذ التمام شاهدوارئيس العرفاء يتحدث الى الضابط ويشير الى حسن, فعرفوا أن وساطة مصطفى قد فعلت فعلها, تمتم أحد الشباب متأثرا, فقد كان حسن العربي أحد أقربائه: عمره الدم مايصير ميه, تفرقت السرايا كل سرية الى مكانها المحدد وباشرت التدريب, وشاهدوا الضابط يتجه الى حيث يقف حسن, وعرفوا أنه يتوعده ويهدده إذا كرر المحاولة من خلال حركة يديه, ثم التفت ناحية العريف وتمتم له بكلمات, قام العريف على أثرها بأداء الواجب العسكري للضابط الذي تركهم وذهب بإتجاه مبنى الادارة, وما أن اختفى الضابط بالداخل حتى شاهدوا حسن العربي يتجه صوب الخيمة, عتد الظهيرة تفرقوا لراحة الغذاء, وما أن دخلوا الخيمة حتى شاهدوا حسن متكئا في الركن وهو يفترش بطانية عسكرية وقد لفت ركبتاه ومرفقاه بقماش أبيض, سلموا عليه ونصحوه بتحمل الظروف مثلهم ولا داعي لأن يعرض نفسه للمخاطر, خاصة وأنهم قد شاهدوا أكثر من مرة من يتم إعدامهم بالساحة نتيجة لرفض تنفيذ أمر أو عراك مع أحد الجنود الايطاليين.
بعد الغذاء مباشرة, وكان من العادة أن يمنحوا ساعة أو أكثر للراحة تفاجأوا بصوت البوق, ففزعوا, فهي ليست من المعتاد, وأطل أحدهم من باب الخيمة, فقال : يبدو أننا راحلون, أنتبه الجميع وكان بعضهم قد نزع حذاءه, والبعض الاخر أستبدل ملابسه مهيئا نفسه للراحة أو للصلاة, تجمع أكثرهم عند باب الخيمة فإذا حركة باصات يتم تنظيم وقوفها على جانب الساحة.
أسرعوا في تغيير ملابسهم وأرتداء أحذيتهم, خاصة وأن الجنود كانوا يطوفون بين الخيام لإستعجالهم, وخرجوا مهرولين الى الساحة, تجمعوا في الساحة على هيئة سرايا, وجاء الضابط, وكان متجهما هذه المرة, فوقف أمام الكتيبة وتحدث بلغته الايطالية, فهم البعض ماقال ولم يفهم البعض, فالغالبية العظمى منهم لا يفقهون من الايطالية إلا كلمات بسيطة, وتولى الذين فهموا الترجمة للذين لم يفهموا, ولأول مرة يتركهم الجنود يتحدثون في الجمع, أنصرف الضابط, وتولى رئيس العرفاء مسئولية إتمام باقي الاجراءات, فتحدث إليهم بلغة خليط بين العربية والايطالية, وقال في النهاية: والان ستتفرقون وعندكم نصف ساعة لتجمعوا حوائجكم وتعودوا الى هنا, وصاح هيا تفرقوا, تفرقت الكتيبة ولكن لم يهرولوا هذه المرة بل اتجهوا صوب الخيام وكل منهم مطرق الى الارض, دخل محمود الخيمة مع زملاءه, وكان الجميع ينظرون الى مصطفى, وكانت أعينهم تنم عما يدور في أذهانهم, فكان مصطفى يقسم لهم بأغلظ الايمان أنه مثلهم لا يدري الى أين يتجهون.
تجمعوا من جديد, وكان بجانب كل منهم كيس أخضر اللون, وسرعان ماصدرت لهم الاوامر بالتوجه الى الباصات, وماهي إلا دقائق حتى كانت الباصات تغادر المعسكر, وتأخذ اتجاه الشط, ظن البعض أنها تتجه للميناء, ولكنها قريبا من البحر اتجهت شرقا ودخلت القاعدة الجوية, وأتجهت مباشرة الى طائرة شحن عملاقة كانت تقف يالمدرج, وبابها الخلفي مفتوح, وقفت الباصات بالقرب من الطائرة وفتحت أبوابها ونزل منها المجندون ليقفوا صفا واحدا وكان الجنود يحيطون بهم واسلحتهم بإيديهم, وتم إصدار الامر بالتقدم نحو الطائرة, صعدوا جميعا فوجدوا الطائرة عبارة عن مقاعد خشبية وحبال تتدلى من جوانبها, وجلسوا في صفين متقابلين, والبعض الاخر جلس على الارضية, وقف أحد الجنود عند الباب وقال: تمسكوا بالحبال وأنتم واتجه بكلامه للجالسين على الارضية, أما أنتم فألتصقوا ببعضكم وتمسكوا بالجالسين على المقاعد, وغادر, لينطلق صرير مزعج, ويعم الظلام فأصبح المكان كالقبو, وأنطلقت التعليقات من هنا وهناك, وتحركت الطائرة, وكان هناك مصباح بالسقف أنبعث منه ضوء خافت ما أن تحركت الطائرة, كان أغلب الموجودين إن لم يكن جلهم لم يركبوا طائرة من قبل, فسيطرت مشاعر من الخوف والاثارة على الجميع, وتمسك الجميع بأقرب شيء ثابت بجانبه, عندما ياشرت الطائرة الاقلاع, ويدأ شيء من البرد يسري داخل القبو, وقد يكون وصف المكان بالقبو أقرب وصف له, فأزداد المجندون إلتصاقا ببعضهم وقتحوا أكياسهم ليخرجوا منها كل قطعة قماش يمكن أن تشعرهم ببعض الدفء.
تجاوزت الرحلة أربع ساعات, وقد تظاهر بعض المجندين بالنعاس, وبقي البعض يحدق فيما حوله, متسائلا عن الوجهة التي تتجه إليها الطائرة, فهي حتما قد تجاوزت حدود ليبيا, هذا ما أكده لهم مفتاح, وكان أكثرهم علما فهو متحصل على الشهادة الابتدائية, قال لهم: اسمعوا حسب علمي فإن الطائرة تصل من طرابلس الى أبعد نقطة في ليبيا في حدود الساعتين, ومن المؤكد أن الطائرة قد خرجت من الاجواء الليبية منذ فترة طويلة, ساد صمت رهيب بعد أن قال مفتاح ماقال, وبعد فترة سرت همهمات, بين الجند, وكلها تدور حول الوجهة المحتملة للطائرة.
في هذه الاثناء كان حسن العربي يتلوى من الالم وهو على أرضية الطائرة, ففي كل اهتزاز تصطدم إحدى ركبتيه بأحد زملائه, أو بجانب من الجوانب الخشبية التي يستعملها البعض ككراسي, فتسبب له عذاب, ورغم تعاطف الجميع معه إلا أن الازدحام كان شديد, وقد أجهش بالبكاء, فحاول البعض أن يواسيه إلا أنه قال: لست أبكي من الالم ولكنني تركت أبي وأمي ولاعائل لهما سواي, وقد كانا متعلقان بي بدرجة كبيرة فأنا ابنهما الوحيد, فلا أعلم ماذا حل بهما من بعدي, وكأن هذه الكلمات كانت تغلق صمامات من المآسي, فأنفتحت جميعها, وبدأ كل واحد يسرد قصة تفوق سابقتها, فهذا جابر قد ترك زوجة وطفلا صغيرا في حي سكنه حديثا وزوجته التي جاءت معه من البادية لا تعرف المدينة, وكم كان يمنيها بحياة هانئة في المدينة بعيدا عن شظف العيش بالبوادي, وقبل أن يكمل وضع رأسه بين كفيه, وأخذ يخاطبها: أي هناء ستعيشينه وأية راحة وكيف ستتصرفين من غيري, ثم رفع رأسه فجأة وقال يخاطب نفسه: لا حل سوى الهرب والعودة الى زوجتي وطفلي, علق أحد الجند: لنعرف أين يأخذنا هؤلاء الاوغاد وبعدها لكل حادث حديث, أعجبت فكرة الفرار حسن العربي فقال: وأنا معك سأهرب ولو كنا في المريخ, فإما العودة أو الموت, ضحك أحد الجالسين في الركن المظلم ضحكة هستيرية,وقال: أما أنا فقد قبضوا علي يوم عرسي, لقد كان موعد دخلتي في مساء ذلك اليوم, ياترى من سيدخل بك يا عروستي المسكينة, قال الذي بجانبه: أنت المسكين.
و استمر الحال فهذا يسرد قصته وذاك يعلق عليها, وكانت كلها تدور في فلك المأساة, الى أن حدثت هزة كبيرة بالطائرة, وشعروا بأنها تهبط هبوطا حادا فتماسكوا واعتلاهم خوف ورعب ظنا منهم أن الطائرة ستسقط, وقد تقيأ البعض نتيجة هذه الحركة, وصرخ حسن العربي من الالم فقد أصطدمت ركبته بجانب الطائرة وسال منها الدم, وحدث هرج ومرج.
اعتدلت الطائرة, وأصبح هبوطها انسيابي, فأستراح المجندون وانتبهوا لأنفسهم فمسح الذين تقيأوا ماخرج من بطونهم ببقايا قطع قماش كانت متناثرة على جانبي الطائرة, والتي يبدو أنها قد نقلت الكثيرين قبلهم, لم تكن هناك نوافذ ليشاهدوا المنظر لعلهم يكونون فكرة عن المكان الذي بنقاون إليه, لكنهم عرفوا أنهم نزلوا على الارض عندما شعروا بإرتطام عجلاتها على الارض, واهتزازها الغير منتظم نتيجة هبوطها على مدرج ترابي, وبعد لحظات توقفت وسمعوا صرير بابها فعرفوا أنهم وصلوا الى وجهتهم التي يجهلونها, تم فتح الباب فتحرك المجندون للنزول وكانوا يتسابقون للخروج فقد تقلصت عضلات ارجلهم من الجلوس في اوضاع غير مريحة لفترة طويلة, كان هناك بالساحة جنود يرتدون الخوذ ويشهرون السلاح, لكن محاولتهم لتنظيم خروج المجندين ذهبت ادراج الرياح, فسرعان ما كان الجميع خارج الطائرة يحاول أن يحرك قدميه ويديه, وكانوا يجيلون النظر فيما حولهم لعلهم بعرفون شئيا عن المكان, لكن الغابات المحيطة وحلول الظلام حالا دون ذلك, فقد كان هبوط الطائرة بعد غروب الشمس.
أسرع الجنود في تنظيمهم في صفوف وإجراء تمام سريع, ثم توجهوا بهم نحو الغابة التي على يمين المدرج, وما أن اقتربوا منها حتى لاحظوا أنتشار عدد كبير من الخيام, والتي تم تمويهها بأغصان الاشجار, تم توزيعهم على الخيام كل ثلاثين في خيمة لا تتسع في الواقع لنصف هذا العدد, ووزع عليهم الجند بعض التموين الجاف, وملاءوا لكل واحد مطرة مياه, ونبهوا عليهم بشدة بعدم إشعال النار.
جلس محمود أمام الخيمة ومعه مجموعة من المجندين يتناولون بعض التموين ويتداولون أطراف الحديث, قال جابر: هل لاحظتم أن الغالبية العظمى من الذين رائناهم من ذوي البشرة السمراء, رد مصطفى وكان قادما للتو من إحدى الخيم المجاورة: لأنكم في افريقيا, وبالتحديد نحن الان على الحدود بين ارتيريا واثيوبيا, وانتبهوا فإن المعسكر يتعرض للقصف ليليا, وهذه الغابات ملئية بالحيوانات المفترسة, فعليكم أخذ الحيطة والحذر, رد عليه حسن العربي الذي كان متكئا بباب الخيمة: يعتي أن فرصة الهرب مواتية, قال أحد المجندين من الداخل: نعم من موت محتمل الى موت محقق, رد عليه أخر: الاعمار بيد الله, فقد تكون هناك طريق أمنة.
سمعوا صفارة إنذار, ولاحظوا حركة سريعة من سكان الخيام بإتجاه الغابة, فقال مصطفى وهو يتجه الى حيث يتجه الاخرون: اتركوا كل شيء واختبئوا في الغابة يبدو انها غارة, قام الجميع مفزوعين واتجهوا الى حيث توجه مصطفى, ولكن حسن العربي واثنان آخران دخلوا الى الخيمة وقبعوا في أحد الاركان ووضعوا كل ما طالته ايديهم من متاع حولهم وبقوا صامتين, وماهي إلا دقائق حتى سمعوا صوت طائرات تلى ذلك انفجارات وحرائق ببعض الخيام, وحاول احدهم ان يتظر من فجوة من الخيمة, فصرخ من الفزع, لقد أحترقت الخيمة التي بها العريس ويبدو ان بها جماعة مثلنا لم يغادروا.
واستمرت الانفجارات نحو ربع ساعة خيم بعدها سكون على المكان, وانطقت الصفارة معلنة انتهاء الغارة, فعاد من توجهوا الى الغابة ليحصوا الخسائر, كان نحو من عشرين شخصا من الذين قدموا بالطائرة قد لقوا حتفهم, وجرح خمسة كانت جروحهم بليغة فنقلوا حسب قول جندي إيطالي الى المستشفى الميداني, لكن أحد الاثيوبيين قال فيما بعد ان الجرحي الذين لم تعد حالتهم تسمح بالمشاركة في المعركة يتركون أحياء في الغابة ليكونو فريسة للحيوانات أو يلقوا بهم في البحيرة.
في صبيحة اليوم التالي تم توزيع القادمين على عدة مواقع, بحيث تم إرسال كل ثلاثين شخصا الى موقع معين, وتركوا الخيار لهم في البداية ليختاروا بعضهم البعض, فأختار مصطفى من أبناء منطقته ثم أضيف لهم محمود وجماعته, تم تكملة العدد ببعض المجندين الاخرين, وكان موقعهم على ضفاف البحيرة, فأتجهت كل مجموعة الى وجهتها, وكان الفراق مؤلما, فقد شعر كل فرد بالغربة فعلا في هذه المنطقة المجهولة, وكان تجمعهم يمدهم بنوع من العزاء, ولكن تفرقهم اليوم أشعرهم بأنه فراق لا لقاء بعده, فأخذ كل واحد منهم يوصي رفيقه بالحذر والانتباه, وكان ختام كل حديث بجملة واحدة, لوكان في العمر بقية..
وصلت مجموعة مصطفى الى ضفاف البحيرة, فوجدوا خيام منصوبة بين الاشجار الكثيفة, وهي أيضا مموهة بأغصان الاشجار, وكان المسئول عن المعسكر ضابط إيطالي, ونائبه رجل أسمر البشرة طويل ونحيف, تقدم الجندي الايطالي وبعد أداء التحية أشار الى الشباب الواقفين خلفه وكانوا قد نزلوا من سيارة نقل عسكرية وأنزلوا متاعهم, وتجمعوا حول بعضهم البعض, أشار الضابط الى الرجل الاسمر, فذهب ناحيتهم وأمرهم بالوقوف في صفين متوازيين, وكان يتكلم لهجة عربية ركيكة, فأصطفوا كما أمرهم, وجاء الضابط فتفقدهم, وأصدر أوامره للرجل الاسمر ثم عاد الى حيث يقف الجندي الايطالي فأستلم منه قائمة بأسمائهم, وأتجه الجندي الى حيث السيارة وغادر المكان.
تم توزيعهم على الخيام, وكان أغلب من فيها من ذوي البشرة السمراء الفاتحة,
وكان بعضهم يتحدثون العربية بلكنة افريقية فعرف المجندون أنهم في منطقة على الحدود بين اثيوبيا وأرتيريا, وعرف أولئك الرجال أن القادمين الجدد من ليبيا, وبعد جهد جهيد عرف البعض مايعنيه ذلك, وذلك بعدما أحضر أحد الرجال السمر خريطة قديمة للجزء الغربي من قارة افريقيا, فسقط في أيدي الكثير من المجندين وعرفوا أن عودتهم باتت شبه مستحيلة, وهذا أشعرهم بإحباط شديد.
مرت الايام والشهور وهم على تلك الحال, فقد مات بعضهم وهرب أخرون, وبقي البعض يعيش في رعب من الحيوانت المفترسة والغارات المتوالية, وجلس محمود ومصطفى ذات عشية أمام خيمتهم, وأخذوا يتذكرون رفاقهم الذين فقدوا, وقد كان أولهم جابر, الذي ذهب الى البحيرة ليستحم فيها فقد أكلته الاوساخ, وعذبته لسعات البراغيث, وأكل القمل رأسه فلم يحتمل, نزل الى البحيرة ليغتسل, وكان رفاقه على ضفافها وبعضهم كان يستعد للحاق به, حينما سمعوا صرخته, وشاهدوا تمساحا ضخما وهو يقضم نصفه ويبتلعه الماء, ولم يتبقى منه إلا بقعة حمراء, جلبت بعض التماسيح الاخرى الى المكان, ففر البقية مرعوبين الى داخل الغابة ولم يعد أحدهم يقترب من ضفاف البحيرة, وتأوه محمود وهو يقول كان يمني نفسه بالعودة, لكنه الان يرقد في بطن تمساح, رد عليه مصطفى في محاولة منه للهروب من هذه الذكرى قائلا: ياترى ماحل بحسن العربي ورفاقه, فقد غادروا منذ شهر صحبة ذلك الاريتيري ولا نعلم هل نجوا أم أن مصيرهم, فقاطعه محمود: لقد أكد ذلك الرجل بأنه بالامكان الهرب الى بعض القرى في ارتيريا, وان الناس فيها مسلمون ويحبون العرب, وأقسم لهم وكنت حاضرا أن الكثير من الليبيين يعيشون هناك وقد تزوجوا ببنات ارتيريات وهم يعيشون في هناء وامن, قال مصطفى : اتمنى لهم السلامة, لكن الاهوال التي مرت بنا جعلتنا نشك في كل شيء, وأضاف أنظر الى حالنا, فقد أكلتنا الامراض والاوساخ, وفقدنا الكثير من زملاءنا, ومازال النزيف مستمر, قال محمود: ولكن في الفترة الاخيرة تناقصت الغارات الجوية, ويبدو أن الحرب قد قاربت على النهاية.
حدثت ضجة في الطرف المقابل, وشاهدوا بعض الرجال يهرولون في اتجاهات مختلفة, وسمعوا بعض الطلقات النارية, فخرج من كان داخل الخيمة لينظموا الى حيث مصطفى ومحمود مستفسرين عن الحدث, وبقوا واقفين أمام الخيمة حتى مر بقربهم أحد الرجال يحمل فأسا بيده, فسألوه, فقال لقد هجم أسد على الخيمة التي بطرف المعسكر وقتل ثلاثة من الرجال, وهرب بنصف أحدهم الى داخل الغابة, وتركهم ومضى مهرولا الى حيث الخيمة المنكوبة ليشارك في دفن ما تبقى من أشلاء, فرائحة الدم ستجلب المزيد من الحيوانات والتماسيح.
لماذا تم جلبنا الى هنا, ومالدور المطلوب منا القيام به؟.. أسئلة ظلت تدور في الاذهان دون إجابة, فلا معارك خاضها الجند, ولا عدو في المناطق القريبة, ماعدا الحيوانات المفترسة ونماسيح البحيرة وتلقي القنابل بين الحين والاخر من الجو.
بعد نحو سنة من وصول الدفعة الاولى وصلت دفعة جديدة من المجندين القادمين من ليبيا, التف حولهم من تبقى على قيد الحياة وأمطروهم بالاسئلة عن أحوال البلاد والعباد, كانت الاحوال تزداد سؤ فقد أصيح الساحل الليبي ميدان للمعارك الرئيسية, وقد تركنا الالمان يتقهقرون أمام ضربات الجيش البريطاني, وقد هجر أغلب الناس مساكنهم وهربوا الى الارياف, أما الايطاليين فهم في وضع محرج للغاية نتيجة تحالف بلادهم مع النازية.
وكان القادمون الجدد يتسآلون عن الاوضاع بهذه المناطق, فتم تحذيرهم من الاقتراب من البحيرة أو الدخول الى عمق الغابة, وغير ذلك فلا شيء يفعلونه غير الانتباه والحذر من الغارات الجوية, وقال سعد الذي كان يبدو أنه تلقى بعض التعليم: لن أبقى هنا طويلا, فقال له محمود: هناك طريق يبدو أن به الخلاص, وقد جربه قبلك جماعة منا ولا ندري هل نجحوا أم لا, قال سعد بلهفة: ما هو دلنا عليه, فأخبره عن الرجل الاريتري الذي يهرب المجندين الى القرى في وسط أريتيريا, طلب منه سعد أن يعرفه عليه, فوعده بذلك, وقال: لكنني لا أتحمل المسئولية عما يحدث, فأنا لم اقتنع بكلامه, قال سعد: دع عنك موضوع القناعة. وأتركه لي.
بعد نحو شهر من قدوم المجندين الجددو جاء الاريتري, وكان يحمل أخبارا من حسن, ورسالة مكتوبة بلهجة ليبية واضحة, يتحدث فيها حسن عن قصة هروبهم, ويؤكد أنها سهلة تشجيعا لمن يريد الهروب, لدرجة جعلت من علي يقترب من ابن خالته محمود ويهمس في أذنه: مادامت هكذا فلماذا نبقى في هذه المأسأة, لكن محمود كان حازما ورد عليه برد قاطع: لن أهرب, فإما موت هنا أو رجوع الى الوطن, فسكت علي, فضل البقاء مع ابن خالته على المغامرة, لكن سعد وبعض القادمين معه أتفقوا مع الاريتري على موعد للهروب.
ومرت الايام والليالي, ومن بقي من المجندين حيا تغيرت ملامحهم نتيجة الاوساخ التي تراكمت عليهم, فمنهم من لم يغتسل لمدة شهور, وقد تعودوا على الحياة مع البراغيث والقمل, حيث أنهم كانوا يشعلون النيران وينفضون ملابسهم فتسمع صوت فرقعة القمل والبراغيث في النار, وكانوا يشبهونها بصليات متواصلة من بندقية الصيد.
وفي احد الايام شاهد المجندون الضباط والجنود الايطاليون يتجمعون وتبدو على وجوههم الحيرة والذهول, لكنهم لم يعرفوا السبب إلا بعد نحو أسبوع, فقد علموا عن طريق بعض الاثيوبيين أن المانيا قد هُزمت في الحرب, وأن الحلفاء يطاردون فلول الالمان والايطاليين في كل مكان, فأحتار بعض المجندين, وأستبشر بعضهم خيرا, وكان محمود على رأس المستبشرين, فقد كان يقول: أبشروا فإنني أرى فرجا قريبا.
و في أحد الايام التي تلت ذلك اليوم, قاموا مفزوعين على حركة غير اعتيادية, وحينما خرجوا من الخيام شاهدوا الجنود والضباط الايطاليين يروحون ويجيئون في غير أنتظام, وماهي إلا لحظات حتى سمعوا صوت إطلاق رصاص ثم خمد الصوت, وخرج الجنود والضباط وهم يرفعون أيديهم, وشاهدوا المقيمين في أطراف الموقع وهم يتقدمون نحو الساحة رافعي أيديهم ومنكسي رؤوسهم ويحيط بهم جند لايرتدون الزي الايطالي, قال مصطفى بعد أن شاهد العلم الذي يرفعونه: أنهم الانجليز, ارفعوا أيديكم وأتركوا السلاح في مكانه, فخرج جميع من بالخيام واتجهوا نحو الساحة, أمرهم الضابط الانجليزي بالجلوس, وأخذوا يميزونهم عن بعضهم البعض, تم تصفية بعض الضباط الايطاليين, وأخذ البقية كأسرى, أما المجندون من ليبيا وأريتريا واثيوبيا فقد قاموا بفرزهم حسب جنسياتهم, ونقلوا كل مجموعة الى مكان, وصل المجندون الليبيون الى المعسكر الذي هبطت به الطائرة, فوجدوا مجموعة أخرى من المجندين تم استقدامهم من مواقع أخرى, فكان إجمال العدد نحو مائة وخمسون مجند, نظر علي الى ابن خالته محمود وقال: هذا ما بقي, لقد كانت طائرتنا لوحدها تقل نحو أربعمائة, فأين البقية, نظر إليه محمود ولكنه ظل صامتا لا يتكلم, فقال مصطفى: من مات مات ومن هرب هرب, والحمد لله على كل حال, بل قل ماذا سيفعل بنا هؤلاء الاوغاد الجدد.
قضوا ليلتهم في الساحة, دون طعام أو منام, وكانوا ممنوعين من التحرك, وما أن لاحت تباشير الصباح حتى سمعوا صوت طيران فحاولوا أن يهربوا للإختباء في الغابة كالعادة لكن الجنود منعوهم من المغادرة, وبقي الجنود أيضا في أماكنهم, فطمأنهم مصطفى قائلا: لو كانت غارة لما بقي هؤلاء في أماكنهم, فهم احرص على الحياة منا, ازداد صوت الطائرة قربا منهم, فبقبوا يترقبون على حذر, وأغلبهم نطق بالشهادة, لكنهم بعد برهة شاهدوا طائرة تقترب من المهبط وتحط عليه, فأزدادت دقات قلوبهم وتراوحت مشاعرهم بين الفرح والخوف.
ما أن وقفت الطائرة حتى تقدم ناحيتهم الجنود وأمروهم بالنهوض والتوجه نحو الطائرة, فساروا دون وعي منهم, وهم مطاطئوا الرؤوس, حاول البعض أن يلفت انتباه الجند الى امتعتهم التي بالخيام, لكن الجنود أمروهم بالمسير نحو الطائرة, وما أن وصلوها حتى وجدوا بابها الخلفي مفتوحا فأدخلوهم الى القبو مرة أخرى, فسارعوا الى الجلوس على الالواح الخشبية والتمسك بالحبال, قذف بعض الجنود بعض التموين الجاف وبعض القوارير من المياه الى داخل القبو وتم قفل الباب, وتحركت الطائرة.
استمرت الرحلة مايقارب زمن الرحلة الاولى مما جعل محمود يهمس في أذن أبن خالته قائلا: يبدو أننا عائدون الى ليبيا, فقال ابن خالته: أو..لكن محمود لم يدعه يكمل فقاطعه بشدة قائلا: تفاءل خير, فسكت على مضض, وهو يمني النفس بأن يكون كلام أبن خالته صحيحا.
شعروا بهزة وهبوط حاد فعرفوا أنهم قاربوا على الهبوط الى مكان ما, وماهي إلا دقائق حتى حطت الطائرة, وفتح بابها, فتسابق المجندون الى النزول, ما أن شاهدوا مكان الهبوط حتى كبروا واختلطت عليهم المشاعر فمنهم من يبكي ومنهم من يضحك بهستيريا, فهاهم ثانية في طرابلس وفي المكان الذي ركبوا منه أول مرة, نزلوا جميعا وأغلبهم ما ان لامست أقدامه الارض حتى وقع ساجدا, كان يحيط بالطائرة سرية من الجنود يحملون اسلحتهم, فأمروا المجندين بالتجمع في ساحة قريبة من الطائرة, وتقدمت سيارات الاطفاء, وأخذت ترش المجندين بسائل أبيض, وهم ييحاولون تغطية عيونهم وأنوفهم خشية استنشاق هذا السائل, فقد ظنوا أنهم يريدون قتلهم, فكان البعض يصيح: اقتلونا بالرصاص أفضل لنا ولكم, وبعد ذلك تقدمت سيارة أخرى وأخذت ترشهم بمياه ساخنة حتى غسلتهم, وسالت المياه بيذاء بمنقطة بالاسود نتيجة ما نزل منهم من قمل وبراغيث وحشرات أخرى, وبعد ذلك تم الايعاز لهم بالمسير الى منطقة جافة فأقترب منهم بعض الجنود على حذر كأنهم يقتربون من وباء معدي, ويتفحصونهم من بعيد, ويشيرون الى بعضهم بالعصي ليخرجوا من الطوابير, وبعد أن أختاروا منهم مجموعة كان محمود من ضمنهم, أمروا البقية بالخروج من القاعدة والعودة الى بيوتهم, أما الذين وقع عليهم الاختيار فقد تم تسجيلهم وإبلاغهم بأنهم سينظمون الى الشرطة الليبية, وأعطوهم عشرة أيام إجازة وبعدها حددوا لهم مكانا للتجمع وأمروهم بالتفرق والعودة الى بيوتهم.
       الهادي خليفة الصويعي/ليبيا



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق