....................
إبراهيم عبد الكريم
................
الجزء الثاني من رواية: دموع على ضفاف المهجر
بقلم: إبراهيم عبد الكريم
(..................، )كانت الساعة تشير إلى حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا حينما حطت الطائرة التي تقل علي، في مطار شارل دوكول، وكله أمل في تحقيق حلم طفولته، قضى ردحا من الزمن داخل الطائرة محلقا بين المغرب وفرنسا، والغصة تكاد أن تحبس أنفاسه، تارة يعيش في حضن ذكريات الماضي الجميل، من طفولته الى أن أصبح شابا انيقا حاصلا على شهادة الدراسات العليا، وتارة يعيش في حضن افتراضات لمستقبل مجهول، وفي أرض يجهل عنها كل شيء إلا ما قرأه في المدرسة والكتب التاريخية والأدبية والفلسفية وغيرها من الفنون التي شهدت ازدهارا في العاصمة السياسية والاقتصادية، مثل الفن التشكيلي والمسرح وغيره. تنهد تنهيدة عميقة وهو يهبط من مدرجات الطائرة، معلنا عن ترك حبائبه ومسار حياة دامت لما يزيد عن خمسة وعشرين سنة بين الفرح واليأس والأحزان، حل بفرنسا مهد الثورة ضد العبودية والاضطهاد من ٲجل نشر مبادئ الحرية والمساواة بين المواطنين. طالما حلم به منذ أن فكر في الهجرة من أجل المعرفة، وهو يعلم أن لا شيء سهل المنال، وإن الطريق صعب يتطلب إرادة قوية وطموح صلب قائم على المبادئ الثابتة التي اقتنع بها والقادرة على مساعدته على تحمل الصعاب وإزالة العقبات من طريقه، في هذه اللحظة شرد بذهنه ليتذكر الأصدقاء الذين تركهم وراءه، الذين حصلوا على الماستر وما زالوا تحت رحمة الراحم، لا عمل لهم ولا آفاق نحو المستقبل الذي عملوا من أجله دون طائل، فاجأه حشدا كبيرا من المسافرين القادمين، المصطفين في انتظام المرور أمام الجمارك، وبدون مشادات أو صراخ وركض. كان الاستقبال محكما، بعد ذلك انتقل إلى الحزام الآلي لينتظر أمتعته، فسلك طريقه إلى خارج المطار متبعا في ذلك الإرشادات العالقة على الجدران. استغرب لغياب اللغة العربية من بين اللغات المستعملة في توجيه الوافدين من مختلف الأجناس، كل شيء مر في سلام وثبات إلى أن وجد نفسه في محطة مكتظة بالناس في انتظار أقاربهم من المسافرين، نظر يمنة ويسرة وفي جميع الاتجاهات، كان يأمل في قرارة نفسه أن يرى أحد معارفه، أو يسمع احدا يناديه باسمه، لكن لا شيء من هذا حدث، خاب ظنه، ظل ردحا من الزمن ينتظر دون طائل، في غياب أي مساعدة قرر تدبير أموره بنفسه، كل شيء بدا مغايرا لما ألفه في وطنه، لا سيما وأنه انتقل من مدينة صغيرة إلى إحدى أكبر المدن العالمية التي يتجاوز سكانها العشرة ملايين نسمة، في ظرف ساعة ونيف، تم تأسيس مدينة باريس في القرن الثالث قبل الميلادي كما أصبحت العاصمة السياسية لفرنسا في القرن الخامس الميلادي على يد الملك كلوفيس، لها تاريخ حافل في جميع الميادين. لحسن الحظ كان علي يجيد اللغة الفرنسية، كيف لا وهي من اختصاصاته، درسها منذ السنة الثالثة ابتدائي إلى أن حصل على الماجستير أدب فرنسي، امتطى حافلة التاكسي، وبعد تحية السائق، خاطبه هذا الأخير قائلا" إلى أين تريد الذهاب سيدي" أجابه علي بصوت مبحوح قائلا " إلى أقرب فندق وسط المدينة"، دون توقف أضاف" افضل ان يكون الفندق قريبا من حي باربيس" حينما سمع السائق اسم باربيس، ابتسم في وجه علي، ثم أعاد الترحيب به، لكن هذه المرة باللغة العربية الشيء الذي ٲثلج صدر علي.
كان السائق من أصل جزائري، هاجر الى فرنسا في بداية التسعينات وفي جعبته شهادة الباكالوريا علوم على أن يتابع دراسته في الطب ويعود بعد ذلك إلى بلده ليخدم شعبه ووطنه، لكنه سرعان ما وجد نفسه يتخبط في أزمة مادية أجبرته على ترك الدراسة والزواج بابنة خاله التي كانت تحمل الجنسية الفرنسية مما خول له الحصول على الإقامة القانونية بفرنسا وكون عائلة، إذ أصبح أبا لثلاثة أبناء، كبروا وتركوا بيت الأسرة ليجد نفسه وحيدا برفقة زوجته، وكما صرح لعلي بقوله" لم أرجع إلى وطني من أجل ابنائي في انتظار زيارتهم لي ولٲمهم" أضاف وعيناه تفيضان بالحزن والألم" إلا أنهم لا يأتون لزيارتنا" أنهى كلامه بقوله" هذا هو مصير المهاجر الذي يبقى في هذا البلد، خاصة بعد التقاعد" كان الشيب قد خط شعر السائق وجعد وجهه من قلة الراحة وكثرة التعب. لم يتوقف علي في تبادل أطراف الحديث مع السائق طيلة الأربعين دقيقة التي استغرق فيها التنقل من المطار إلى الفندق. اتجاه الفندق، الذي لا يبعد بكثير على باربيس، الحي الذي نصحه أصدقاؤه بالتردد عليه ان اشتاق لبلده وأبنائه، فالحي مشهور عند الجالية المغربية القاطنة في فرنسا، خاصة منها في باريس. كل ما لاحظ علي في الطريق هي كثرة البنايات العالية، والطرق المعبدة، و المكتظة بالسيارات، مدينة عصرية كما يصلح تسميتها، تميزها بنايات ذات طابع قديم يرجع بناؤها إلى القرن الماضي أو ماقبله، كما رأى اللافتات الإشهارية لبعض الأفلام والمنتجات الاستهلاكية إلى أن رأى لافتة تدعو الناس إلى الإيخاء والاحترام المتبادل بين الناس لأنهم كلهم بشر لا فرق بينهم. كان علي دوما من محبي الطبيعة، غالبا ما نظم نزهات في الغابات المجاورة لمدينته الصغيرة، كما كان يخرج للخلوة بنفسه في الحديقة العمومية أو برفقة سعاد، لينفرد بها في مكان بعيد عن أنظار المارة أو ٲفراد عائلتها خوفا مما يمكن أن يترتب عن رؤيتهما معا، ما زال المجتمع يحتفظ ببعض العادات والتقاليد الأسرية التي تمنع على الفتاة والفتى الارتباط بعلاقة حب.
منذ صغره يمقت العيش في كبريات المدن لما تحدثه من ضجيج وتلوث الهواء، لهذا كان يردد في قرارة نفسه أن عليه التحلي بالصبر حتى يتأقلم مع هذا المحيط المخالف لما كان يعيش فيه. تبادل أطراف الحديث مع السائق طيلة الطريق إلى الفندق، كانت تعلو وجهه ابتسامة متوترة، كان في حيرة من أمره، في الأخير لم يفت السائق أن نبه علي على أخذ الحيطة والحذر من التجوال في حي باربيس ونواحيه لكثرة السرقة والمدمنين على المخدرات من شباب وشيوخ. توقفت التاكسي، أما الفندق المسمى باسم " فرنسا،" بعد ذلك ساعد السائق علي في حمل حقائبه إلى باحة الفندق، لحسن الحظ وجد غرفة شاغرة، كانت هي الأخيرة التي لم يتم حجزها من طرف السياح الأجانب الذين يحجون بكثرة إلى فرنسا وبالضبط إلى باريس المشهورة عالميا، خاصة في فترة الصيف. فرنسا تحتل المرتبة الأولى عالميا، بحيث يتجاوز عدد السياح الذين يزورونها خمسة وسبعين مليون سائح كل سنة ومدينة باريس على رأس المدن السياحية في فرنسا، لما تزخر به من آثار تاريخية ودينية وثقافية تعود إلى ما قبل القرون الوسطى، كما تشتهر بمطاعمها التي تحتل المراكز الأولى عالميا، يحج إليها السياح من جميع أقطاب العالم لاسيما الآسيويين، وغالبيتهم من الصين.
نقلت أمتعة علي الى داخل الغرفة، كان متعبا من السفر، استرخى على الفراش لمدة فاقت الساعة والنصف، وبعدها قرر الخروج للتجوال في شوارع باريس، كان الطقس صحوا والسماء صافية والشمس قد نسجت خيوطها منذ بداية الصباح، وراح يذرع شوارع باريس، متوجها نحو باربيس، الدائرة الثامنة عشرة، الحي الشعبي، أو كما يسمونه بأرض المستعمرات الفرنسية، تحج إليه كل الأجناس البشرية لا سيما النازحة من المستعمرات الفرنسية بكل من إفريقيا وغيرها من القارات في العالم، تسكنه مختلف الأقليات القاطنة بفرنسا، يعتبر متحفا يزخر بجميع الثقافات العالمية، يوفر للزائرين التعرف على مجمل العادات والتقاليد الإنسانية من أكل والبسة تذكرهم باوطانهم، كما تنطق به جميع اللغات العالمية، غالبا ما تكتظ شوارعه بالمارة على مدار أربعة وعشرين ساعة.
طاف علي بشوارعه لعله يلتقي بمواطنيه أو ٲحد معارفه، لم يسبق له أن رأى حشد كبير من الناس، من جميع الأعمار، يجوبون المحلات التجارية المكتظة بالزبائن، والمطاعم المليئة بالناس، واختلاف الأطباق الغذائية، تقليدية كانت أو عصرية من جميع الاتجاهات والثقافات المتعددة، حتى الألوان الموسيقية تكثر باختلاف الأذواق العالمية، يشعر الإنسان بالطمأنينة وهو يتجول بشوارع باربيس إلا المتطرفين العنصريين، وما أكثرهم بفرنسا، فهم غير مرغوب فيهم في هذا الحي الشعبي الذي يشهد له تاريخ الحركات التحررية المطالبة باستقلال المستعمرات الفرنسية، خاصة منها الافريقية مثل دول المغرب العربي التي كانت تنشط في أزقته مثل زنقة شاربونيي المعروفة لدى المهاجرين القدامى، كل شيء يباع ويشترى في أزقة هذا الحي، حتى السراويل المهترئة تنال نصيبها الأكبر من البسة الشباب والشابات في هذا الوطن، سرعان ما أثار انتباهه جموع من الناس، حاول الاقتراب منهم، لكنه تذكر وصية السائق وهو يقول له:" احذر من السرقة في حي باربيس"، لكن المشهد الرهيب الذي كاد أن يوقف انفاسه، حينما راى عائلة مكونة من رجل وامرأة بصحبة ثلاثة أطفال جالسين على قطعة من الكارطون على رصيف الطريق يتسولون رافعين كارتون مكتوب عليه باللون الأسود كلمات باللغة العربي، والفرنسية، تقول " لاجئون سوريون يطلبون لقمة عيش ومأوى"، كانوا يطلبون المساعدة من المارة، نعم أصبح الإنسان السوري مشردا في بلدان العالم، خارج بلده منذ اندلاع الحرب بين القوات النظامية والمعارضة سنة 2011، النكبة التي أصابت هذا الشعب العظيم الذي عرف عنه تشبثه بوطنه، مأساة السوريين مازالت تؤرق هذا الشعب العظيم الذي ذهب ضحية حكومة دكتاتورية وتدخل القوى الغربية والشرقية التي مزقت مصير امة لها جذور في تاريخ الانسانية لأسباب إيديولوجية بين الشرق والغرب
فرنسا 22/03/ 2022
إبراهيم عبد الكريم
المغرب.
اللوحة للفنان الصديق عبد الناصر اتسولي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق