الثلاثاء، 29 مارس 2022

 ...............

فوزي الديماسي

................




" الجمجمة والزورق " رواية
بقلم : فوزي الديماسي / تونس
(مشروع نص روائي)
****
اللوحة الأولى : ( نص تجريبي )
الزّمن فجر كاذب ...
والرّحب قفر ...
والسماء رافلة في ضباب يلقي بشحوبه على رؤوس الجبال ...
ريح عاتية تولول في أرض منبسطة كالهمّ...
وضوء مسفوك الأمنيات على الصخر ...
وأنا المدجّج بذعري ، وحيرتي ، أسير في أرض تشبهني ، ولا عهد لي بها ، تحيط بجيدها المترهّل سلاسل من جبال عارية ،
، وصخور مختلفة الأحجام متناثرة هنا وهناك ، وطريق ملتوية كالأفعى تتهجّى دربها إلى قمم الجبال ، وبعض نبات يتيم يراقص السفوح في خفر ، وحجارة منتشرة كالوباء ، وقد شحذت أنيابها لتوّها لنحر السوق والنوق ، وأنا الغريب المتلّبس بصمته المريب أسير في زحمة الأسئلة وحيدا ،أخبط في القفر خبط عشواء ، يحيط بي عواء الطريق ، ووجهي الحائر في البريّة يسير في الرّحب بلا دليل .
توغّلت في الخلاء بلا هدف ، والعقل في جمجمتي المتعبة كمرجل فوق نار من قلق سابح في ملكوت ممتدّ كغربتي في كون لا طير فيه ، ولا أنعام ، إنّه الفراغ وقد حلّ بكلّ شيء.
جلت بناظري في الأرجاء أتهجّى الفضاء لعلّي أدرك نبع حياة ، أو ما يدّلني عليه ، ولكن دون جدوى . لا شيء يبعث في العين شهوة الرحلة ومواصلتها . إنّ الرّحب خلاء ، والمكان لا صخب فيه ولا ماء ، تهدهد عاصفته جباله الهامدة ، وهدهدي بين يدي الوجود أعشى يذرع المكان جيئة وذهابا ، وأنا المحمّل بخوفي أسير في هذه البقعة ، زادي حفنة من الأمنيات لعلّي أدرك نارا تضيء ما حولي ،أو ماء يسقي عطشي ، أو نورا يذهب شغفي ، ولكن كلّما تقدّمت خطوة تاهت منّي الخطوات
في سكون المكان ، وتحت قبة السماء الكئيبة ، وكنت مرفوقا بهواجسي وظنوني وخوفي الشريد، وقد امتد في الأفق شجني الجريح يحادث نفسه في نفسه حديثا كأنه النجوى في همسه المبحوح ، وقظ تعطلت اللغة على لسانه ، وجفت ينابيع الكلام في حلقه ، فأطلق في زحمة العي العنان لعبراته ترسم في صمت متدفق على لوح الغياب سيرة خيبتي ، وتكتب أهاته المكتومة في لوحي أيات حتفي على أنغام أناشيد كالفناء صداها ، والكون من حولي يلبس الشحوب عباءة من شوك وقد حطت أحزانه على متفي تمزق جثة الصباح وأطلال ابتسامة ....
ولّما أدركني التّعب بعد سير طويل جلست على ربوة يتيمة لأستردّ أنفاسي، وحملني ذهني المطوّق بالشرود في غفلة مني إلى صورة أبي وزورقه، فعدت إلى أيّام الصّغر وبياضها ، وحياة اللّهو الطفوليّ وعبثها ، وتذكٍّرت صوت أبي المدمدم يبعث في البحّارة طقوس السعي في عمق البحر ، وأنا على حافة زورقه أتابعه في سكونه وحركته. كانت أياما عرفت فيها في عمق الأزرق معنى الحياة ولذّتها .ج
كان أبي بحاّرا شهما ، ورجلا مقبلا على الحياة ، يغازل الحوت في مصادره ، ويكدح في البحر كدح من نذر عمره للسعي . عرفت بين يديه جمال الكون وكنهه ، وبهاء الفعل ولذّته، وكبرت على صوته في الماء وعلى اليابسة ، وترعرعت بين يديه في البيت ناهلا من معارفه حتى اشتد عودي، لقد كان سندي في
الوجود ، فهو بوصلتي في الناس ، وخرائطي في العالم .نهض أبي كعادته ذات فجر متوجّها إلى مرفأ القرية ليعدّ الشّباك والزورق في انتظار قدوم بقيّة الصيادين ، فالطقس صحو ، والبحر هادئ ، وبينما هو منهمك في عمله على حافة الشاطئ إذ بزمرة من شباب قريتنا يشدونّ وثاقه ثمّ ذبحوه من الوريد إلى الوريد ،وحملوه إلى وجهة غير معلومة على متن زورقه . لقد أشبعوه قتلا ، وألقوا به خارج أسوار القرية . لقد أصبح أثرا بعد عين وقد كان من قبل سيّد القرية وقائدها ،ومنبع فخرها ومستودع أسرارها ، وعامل بقائها بين سائر القرى ، لكنهم تنكّروا له ، وكادوا له كيدا ، وطعنوه طعنة غادرة لا قيام بعدها .
مات أبي ،أو رفعت جثته ،أو صلبت ،أو افترسها البحر.وذهبت
من بعد ذلك ريحه ، وتاه في النسيان زورقه ، وصعرت القرية لذكره الخدّ. ففقدت بفراقه لذّة الحياة ،وتأبطت يتمي ، وعانقت التسكّع على رصيف الغربة أفتّش عنه .
هكذا أنا بعدك يا أبي...
ملاّح بلا سفن ...
مدن بلا خرائط...
كون بلا فجر...
فخرجت طلبا لوجهك في مشارق الأرض ومغاربها، ورغم المحاولة لم أعثر لك على أثر منذ انطلقت في رحلة البحث عنك ، وملّتني الدروب ، وعفّرني السفر والترحال في الخلاء وبين المرافئ وفي المدائن والقرى.ورغم فشل السعي لم أبخل لحظة، ولم أتردّد ،بل نذرت عمري للبحث عنك حتى ألقاك لأستردّ عوامل بهجتي ووجودي بين الخلق.
وبينما أنا على الحالة تلك من انهمار الوجع إذ بصوت يطلّ عليّ بهمسه الطّروب اللّعوب من وراء الجبال ، فشعرت بفرح يقتحم علي وحدتي مغمّسا في الخوف .
فمن كوة الحلم يزهر الفعل ، ومن بطن الليل يبعث النهار وليدا ، وتمسح الوردة بيمينها قبح الحياة على جبين الوجود ، وترمم شقوق النفس ، فتنبت الأهازيج على صفحة الماء تحت قباب السماء المخضرة، وتمرح الصباحات في حقول المعنى ، لتبعث في العين سرورا بعد شجن وفي الشرفات حركة بعد خمول ، ويسافر الورد في مناكب البرية مبشرا بميلاد أبي بعد غيبة.
تطلّعت نحو الصخر ، فلم أر في البرّ إنسيّا ، وفتّشت بعينين نهمتين عن صاحبة الصوت وقد بعث فيّ جرسه أمنا بعد خوف وأملا بعد انهيار ، وبعد زمن استغرق لهفتي أدركت بعسر مصدر الصوت ومنبعه.
إنّها أنثى صقيلة الوجه ، باذخة المفاتن، تبعث في الكون بهمسها المحبّب فتنة. تقف كما اليقين على الصّخر . دقيقة العود ، رافلة في شهوتها ، متدفّق تثنّيها من مرتفعات أنوثتها ، تراقص الريح ، وبيدها جذع نخلة تلوّح به في الفضاء ، وضحكاتها ترفرف فوق رؤوس الجبال ، وجداول من نور تجري من تحتها ، وشمس خرافيّة الجمال تنير وجنتيها .
جرفني نحوها سيل من الوله الطفوليّ...
ودفعتني الشهوة نحوه دفعا...
فأسرجت إليها حواسّي...
ووجّهت وجهي شطر صوتها...
تعثّرت في طريقي إليها ، وأدمى شوك الطّريق قدميّ ، فتحاملت على ألمي ، وانطلقت نحوها. سرت والجبال ، يصعد بي درب ، وينخفض بي آخر ، وهي المتربّعة بغنجها على رأس الصّخرة غائبة في ضحكها المتبرّج ، وجذع النخلة بيدها يضيء ما حولها...
مشيت والرذاذ يعزف على وجه الصخر موسيقى كصوت الموج ، وينقر من حين إلى آخر وجه التراب ...
لا أمل يدفعني نحوها إلاّ بلوغ مجلسها ...
ولا هدف يقدح فيّ شهوة السّير إلاّ ضحكتها ...
والأرض من تحت قدمي لا تنبس بحرف ، والسّحاب في عليائه عليل الخطوات ، يراقبني بعين فارغة .
سرت متحسّسا دربي إليها زمنا لم أقدّره ، وأسئلتي بين جنبي نار تلظّى .
ولمّا بلغت مجلسها بعد مشقّة شعرت بدوار في رأسي وبألم حلّ بكامل أقطار جسدي ، فسقطت على الأرض تحت قدميها جثة هامدة ، لا أكاد أشعر بشيء من حولي ، وغبت عن الوجود من شدة التّعب والجوع والبرد ، ورأيت فيما يرى النائم في تلك اللحظة عوالم لم أطأها من قبل ، ولم أر مثلها على امتداد سني عمري :
كنت في فضاء فسيح مفردا ، أهيم في بساتين متاخمة لشاطئ ممتدّ ، وخيول كأنّها العهن تجري على رمله ، تسابق الريح ، لذة للناظرين ، ونار في رأس الجبل ، وقد ألقت بظلالها من بعيد على صفحة الماء ، وامرأة قادمة على مهل تلبس فستانا ناصع البراءة يتهجّى الرّمل ويجرّ حبّاته وراءه ، وأنا الجالس على حافة البحر أتابع بشغف تثنّيها من بعيد ، وقد أحاط بها سرب من الولدان يحملون بأيمانهم شموعا وفوانيس تضيء المكان ، وأصواتهم مرتفعة بأناشيد وتراتيل كأنّها القدّاس ، يحمل بعضهم على أكتافهم عرشا وقد تربّعت عليه نخلة ، وعيون ذئاب بالعشرات تراقبهم من قمم الجبال وشعابها ،ولمّا بلغوا مكانهم المنشود أنزلوا عرش النخلة برفق ، وطفقوا يحفرون حفرة تحت مطر من التهليل ، وسيدة الفستان الأبيض كالفراشة تحوم حولهم ، تبارك سعيهم كما يبارك الربّ عياله ، فتحثّ هذا ، وتدفع ذاك ، وهم بين يديها منهمكين في الحفر بعزم ، ولمّا أتمّوا عملهم ، توجّه بعضهم نحو العرش الجاثم على صمته وأنزلوا منه النخلة برفق برعاية صاحبة الفستان الأبيض ومباركتها ، وتوجّهوا بها شطر الحفرة ، ومن ورائهم سرب آخر، وقد أطلق العنان للأدعية والتراتيل ، وتقدّم الموكب في خشوع رويدا... رويدا نحو الحفرة لزرع النخلة ، وكانت الدّنيا من حولهم ساكنة وديعة ، والبحر على مقربة منهم يتابع قدّاسهم ومن حين إلى آخر يلثم وجنتي الشاطئ في خفر ، وفجأة نزل قطيع من الذئاب من المرتفعات شاهرا أنيابه ومخالبه للفتك ، وحلّت
الفوضى بالمكان ، وارتفعت الأصوات بالصياح والعويل ، وفرّ الولدان في كلّ درب ، وتحلّق الذّئاب حول النخلة الملقية على الرمل بجانب صاحبة الفستان الواقفة في وجه الذهول متسمّرة في وجه العاصفة لا تريم ، وزرعوا أنيابهم فيهما ينهشون لحميهما حتّى ابتلّت منهم الأنياب باللّون الأحمر ، وسال الدمّ في الرّحب أنهارا ، فانتفضت على بشاعة ذلك المشهد مذعورا ، فوجدتني بين يدي رفيقتي في الخلاء على الصّخرة ، وقد احتضنتني باكية ظنّا منها بأنّي غادرت الحياة ، وقد غاب عن عيني مشهد الدّم وصدى الجلبة والعويل والصياح ، ولم يبق منه إلاّ رعدة حلّت بجسمي ، تطلّعت في وجه الجالسة قرب رأسي المثقل بعينين غائرتين، فاستقبلني وجه شاحب ، وقد أصابها الذبول من شدّة الخوف ، ولمّا التقت عيناي بعينيها أطلقت في الفضاء ضحكة مدويّة فرحا بعودتي.
أجلستني بجانبها ...
والسؤال يحلّق فوق رأسينا...
والكلام في حنجرتها قارب في عرض الدهشة في يوم مطير...
لملمت بعض كلمات ، ونسيم الصباح من حولنا يداعب خصلات شعرها برفق ، ويدير كؤوس المطر على الصخر. تململت في مجلسها محاولة الكلام ، لكن تبخّرت اللّغة على شفتيها في البداية لكنها حاولت لملمة شتيت كلماتها لتبادرني بالقول :
" من أيّ الدروب انحدرت ؟ ومن أيّ الصّحف تدفٌّقت ؟ أمن جنّ الأرض أنت ، أم من إنسها ؟ "لقد بعثت فيّ الرّعب ، وظننت أنّك فارقت الحياة ، فتملّكني الخوف واستأسدت حيرتي ، وأنا في هذا الخلاء وحيدة ، فمن أنت أيّها الغريب ؟
بعث فيّ صوتها الشفيف سكينة فقدتها منذ دخلت هذا القفر . اعتدلت في جلستي ،متحاملا على تعبي ، وابتسمت في وجهها ، وانهمر الكلام من فمي:
سليل صهيل الريح أنا...
صيحة في معاجم اللّغات خطاي...
من رحم السؤال بعثت...
ركبت منّي إلى أبي ...
همّي ...
رحلتي ...
سؤالي ...
اندثر أبي...
أبحرت في الأرض مفتّشا عنه وعن زورقه ، وعانقت بحثا عنه وعر الدروب ، تسلّقت مرتفعات الجراح ، بحثت عنه في الحناجر، في صفحات الوجود، في صحف الأولين وقليل من الآخرين، سرت في مناكب الأرض لعلّي أدركه، لكن خاب السعي
، وخاب الطّالب والمطلوب ، لقد خرجت مفتّشا عنه منذ سنين . طفت الشرق والغرب ، ودخلت مدائن وقرى ، أتفحّص وجوه الخلق ، توقّفت سائلا عنه في عشرات المرافئ وعن زورقه ، ولكن في كل مرة أعود محمّلا بخيباتي وفشلي ، ورغم ذلك لم أبخل ، ولن أترك الرحلة والرحيل حتّى ألقاه .
دخلت هذا الخلاء لعلّي أجد أبي هنا ، فسألت عنه الجبال والهضاب وكثبان الرّمل ، وسألت عنه السّفوح والقمم والشّعاب بعدما فشلت في رحلة البحث عنه في البحر وعلى ضفاف مرافئ الدّنيا جميعها ، كنت أمنّي النّفس بالعثور على من يدلّني عليه ، أو يعرف طريقه ، أو أجد له أثرا ، فاستقبلني هذا الخلاء بسكونه
المميت وعويل ريحه العاتية ، حتّى أدركتك أنت في هذا القفر على شاهق الصخر آية من آيات الصباح ، فركبت منك إليك في هواك العاديات لعلّني أجد فيك أبي المنذور للصّباحات ، أو أقف في حديثك على خبر يدلّني على الطريق إليه.
ووقفت بباب لحظك أرتّل تعويذة لك ، وله، حتّى لاح لي في يمّ عينيك راكبا زورقه كما عهدته ،يأمر وينهي ، وصبيانه على ظهر الزورق في حركة واضطراب يلقون بشباكهم في عرض البحر يتنسّمون رزقهم في مصادره ، فسرت نحوك لأتطلّع في وجه أبي لعلّي أستعيد أيّما اندثرت وذهبت ريحها .فرسمت ابتسامة شاحبة على شفتيها ،وطأطأت رأسها . دون أن تنبس بحرف ، ولمّا
أرهقني صمتها ، توجّهت إليها قائلا:
" ها أنّك وقفت على سرّي وسيرتي، فمن أنت أيّتها الساكنة في شغاف الكون ؟"
فاستوت في جلستها، ورفعت رأسها إلى السّماء بعد إطراق كمن يطلب وحيا، أو معونة من وراء حجاب قائلة :
قتلتنا أمانينا يا الغريب...
وألقت بنا قبائلنا على قارعة الحريق ...
فنهضنا على إجهادنا من مرقدنا...
من زمن السكون ...
من مدائن الغبار ...
وحلّقنا من جديد ...
فنهشت أجنحتنا ريحهم العاتية...
وعبثت بنا مخالب الغياب والعباد...
وجثمت مراكبنا على رمل الوقت تستعيد خيبتها ...
ورغم موت قوافلنا على الطريق...
نحاول صعود جبال الضوء...
لعلنا نعانق ذات فجر فجرا وليدا...
فتستعيد مدائننا بريقها...
ونستعيد الوجود وجودنا...
وتعود شمسنا إلى سمائنا...
ولمّا أتمّت حديثها ، كفكفت دمعتها ، ولملمت أوجاعها ، ثمّ أطرقت قليلا ، وتوجّهت إلي مستدركة :
مثلي في الوجود كمثل عروس من الغابرين ، نهشت الكلاب ترائبها ، ومزّقت أنياب الذئاب مفاصلها ، وشوّهت مخالب الخلق مباهج كونها ، لقد قطّعوا أمنياتي إربا إربا ، وركبوا في بحر دمي زورق الغدر ، وساروا في الأرض قتلا وتشريدا.
ثمّ أفصحت في القول مرّة أخرى:
أنا حيرتك في الآفاق منتصرا...
أغنّي للنّخل من كوّة الشكّ...
أطلبني في شرفات السؤال...
أجوب المكان ...
و أتصفّح الزمان ...
أطلب المستقرّ ، ولا قرار لي...
كبراق قدّ من جليل العبرات أنا...
يمخر عباب الفؤاد المتيّم بالصباح...
و ينثر في جراح السؤال تباشير الولادة ...
ويبعث من القبور نخلا بعد قحط...
ويحثّ الماء في الماء...
تلك هي سيرتي منذ كانت السماء دخانا...
نذرت حياتي للنّخل أزرعه حياة في الآفاق ...
أطربني حديثها ، ووجد هوى في نفسي كلامها ، ففرحت فرح من عثر على صنوه ، أو وجد صدى وجدانه وقد انعكس على مرآة غيره ، وتحت شلاّل من الموسيقى وجدتني أسبح بجناحين من ماء ونور في سماء الوجود سمائها ، أتصفح في سريرتي بهاء الكون الواقف في شرفات الأمل شرفاتها المشرعة على نسيم كالحرير يراقص أعمدة الضوء المنتشرة في الفضاء حولنا ، والسماء كأميرة الحكايات القديمة تسير على بساط ملكي تبارك لقاءنا . فأنستني بأحاديثها تعبي ورحلتي ورحيلي ، بل زادتني بقولها ذاك إصرارا على الرّحلة والترحال بحثا عن أبي وزورقه.
ودون تفكير أخذت بيمينها ، وانطلقنا نحو الآفاق لنواصل البحث معا عن الفجر لنزرع في الأرض نخلا بعد موت... ، لعلّي أستعيد أبي المفقود .
اللوحة الثانية :
انحدرنا من الجبل، يدحرجها أملها، ويدفعني نحوها فضولي . كانت تجري كما الريح ، وبيمينها ماسكة على جذع النخل كما الماسك على الجمر ، ومن ورائها قهقهاتها تذكي فيّ نار السؤال . وحركتها مندفعة في كلّ اتّجاه ، كمن به مسّ من جنون ، وكانت مقبلة على الدنيا ، فاتحة ذراعيها للخلاء، وأنا من ورائها أراقب جنونها في حيرة من أمري محاولا اللّحاق بها واقتفاء آثارها ، ومعرفة سرّها الدّفين ، وهي التي أطلقت لتوّها رجليها للعدو في مناكب الصمت ، غير مهتمّة بي ، وكأنّي لم أكن جليسها منذ حين على الصخرة . كانت في القفر كفرس شموس ، منطلقة ، كما الماء تجري ، مطلقة العنان لقدميها والصّياح ، فكلّ الاتجاهات كانت غايتها، وكلّ الفضاءات كانت مملكتها وملكوتها ، كفراشة بين الصخور والكثبان تسعى ، حتى ضاق الفضاء بها وبحركتها المجنونة ذرعا . إنّها في الخلاء كريح عاتية تذرع المكان جيئة وذهابا ، وكأنّ شيئا مّا فقدته تمنّي نفسها بالعثور عليه ، فنذرت نفسها وجسدها للبحث عنه . وبعد زمن لم أقدّره توقّفت عند جبّانة نائمة تحت قدمي جبل ، فطافت بها وتجولت بين القبور :
قبرا ...
قبرا ...
وتصفّحت الجماجم :
جمجمة ...
جمجمة ...
وأنا التّائه في ساحاتها أتابعها ، ولم أدرك بعد من أسرار حركاتها شيئا ، ولفّني في كونها الضباب، إذ لم أقف على سر هذه الحركة المفاجئة . سعيت في اقتفاء مشيتها المتقلّبة لأتهجّى طريقها إليها ، لكن خاب السعي ، واندثرت الأمنيات . واستأسد الخوف بين الجنبين . ناديتها فلم تجبني ، وأطلقت همّتي وراءها فلم تنتظرني ، وسرت على خطاها ، ولم أفلح في اللّحاق بها ، ولم أستطع المسك بقوافل غبارها.
وفجأة وقفت بين القبور تتصفّح هذا ، وتقلّب ذاك ، تحادث هذا حديث النفس لنفسها بودّ ورفق ، وتركل الآخر بغضب ، وتطلق في وجه الآخر سيلا من السبّ والشتم ، وتلثم وجنتي ذاك برفق ، والموتى بين يديها صامتون ، لا يحرّكون ساكنا. وبقيت على الحالة تلك بعض يومها متجولة بين الأجداث المبثوثة في سفح الجبل بلا هدف تحققه ، حتى ظننت بها الظنون ، وفجأة أطلقت في الرحب صيحة والزمن غروب، فتردّد صداها بين الجبال ، ودكّت الصّخور .وتحرّكت الأرض تحت القبور من أثر الصيحة.
حلّق غراب في السماء ...
وتعالت أصوات نشيج من تحت التراب ، وفوقه ، تسكب شجنها في كؤوس الكون المترعة ، وتزيد الجوّ سوادا ...التفتت الناسلة من بين أصابع جنونها ذات اليمين ، وذات الشمال، ووجهت وجهها شطر برك الجماجم وكثبان العظام وصاحت في الخلاء صيحة جمعتهم حولها ، وجثمت على ركبتيها تحفر في الأرض حفرة صغيرة لتزرع عود الزيتون ، وحثّت من بعد ذلك عليه التّراب ، ثمّ خلعت ملابسها ، وأطلقت العنان لحنجرتها ترتّل نحيبا مفزعا بين يديهم ومن خلفهم ترتيلا ،وعود الزيتون منتصب القامة تحت أقدامهم ، والصخر من حولهم كأنّ على رؤوسه الطير . نفشت شعرها ، واستقبلت بيديها أبواب السّماء ، وحلّ ببدنها شيطان الرّقص ، وتدفّق من بين شفتيها عويل بعث في كامل أقطار جسمي مشاعر متوحّشة شتّى ، فحدّثت نفسي بالفرار من هول ما رأيت :
قبور ...
شياطين ...
رقص ...
صياح ...
عواء ...
نحيب ...
ووجدتني بين أعمدة جنونها كطفل في صحراء الوجود ، أضرب في الأرض ، تدفعني أمنياتي نحوها تارة ، ويشدّني خوفي إلى مكاني أطوارا ، تحثّني من حين إلى آخر رؤاي لمواصلة الرحلة ، وفي قيعان النفس تحدّث ذاتي ذاتها حديث الفتاة الجريحة لوحدتها ، وأنا الراكب في فلك من سراب أسعى بحثا عن نبع ضوء في هذا الجوّ المتلّبس بالليل.
. فجأة تقيّأت الجبّانة سكّانها ، وانتشرت الجماجم في الأرض وما عليها ، ونسلت من الأجداث قوافل من العظام . وتحلّق الموتى حولها وحول عود الزيتون الجاثم على دهشته ، وراحوا جميعا يرقصون حوله ويسقونه بعرقهم . ارتفع نشيج الأرض تحت أقدامهم ، وامتدّت ألسنة الغبار تخدش وجه السماء. وانتشر الرقص في كلّ الأرجاء كما الأفعى يلتهم كل ما يعترض طريقه . تسلّق ضجيجهم أعمدة المكان ، واستحالت الجبّانة حلقة من حلقات المجانين ، والمريدون من حول الراقصة دوائر مختلفة الأحجام ، والجميع محلّق في سماوات خفيّة لا تدركها الأبصار .
تململت وراء دهشتي تعبا ، ولم تتعب الراقصة ومريدوها ، فحلقة الرقص في اضطراب محموم لا تريم ، تتقلّص طورا ، وتتمدّد أطورا لتدرك تخوم الجبال ، والغناء كصوت خفيّ من وراء حجاب يتردّد صداه في الشعاب ، وفوق الهضاب، يبعث بين الجنبين خوفا متمرّدا . وبعد زمن خفت صوت الضجيج ، وتوقف الرقص ، وران على الوجوه التعب والوجوم ، وسخر منهم الفشل ، فعود الزيتون لم تمتدّ عروقه في الأرض القاحلة ، ولم يتطاول في البنيان بعد زرعه رغم طوفان العرق المحيط به .
عاودت عارية الجسد الرقص بشعر مسافر في الفوضى ، وجسم مضطرب في الحلقة ، ومن حولها أتباعها يرفسون الأرض رفسا ، وعاود الغبار مرّة أخرى تسلّق عمود الوجود ، وطفق النشيد على آثارهم يمزّق بوحشية سكون المكان .
وبعد حركة ، وغبار ، ورقص ، ونشيد جاءهم صوت الخيبة من وراء سعيهم ساخرا ، فتركتهم لموتهم وأجداثهم واقتعلت عود الزيتون من الأرض ، وغادرت الجبانة ، وأنا من ورائها أتبعها بحذر حيث لا وجهة لنا نلتمسها...
-يتبع -

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق