.................
رفيق مدريك
...............
ذكريات طفل..؟
لم تحتفظ ذاكرتي كطفل يخطو أولى خطواته خارج البيت. ببلوك التقدم بالحي المحمدي. إلا جلوسي على عتبة باب البيت، أراقب قدوم أبي من العمل، وهو يمتطي دراجته الهوائية البيضاء لونها، التي كانت تقطع المسافة الرابطة بين الحي المحمدي وعين البرجة ذهابا وإيابا، تتحمل جسد صاحبها صيفا وشتاءا، صبرها من صبره، وسيلة نقل لم تكلفه إلا ثمن شراءها، وطاقته البدنية، كان أبي عند عودته يحملني على دراجته ليقوم بجولة قرب البيت..
في غفلة من طفولتي توقفت الشاحنة قرب باب بيتنا الجديد. لتفرغ الأثاث الذي نقلته من بلوك التقدم بالحي المحمدي إلى بلوك التقدم بسيدي البرنوصي، وليبقى التقدم مجرد عنوان تحمله المنطقتين معا..
انتقالنا من الحي المحمدي للبرنوصي، انتقل معه أبي من درجة مكتر إلى مرتبة مالك. أتذكر خلال تلك الفترة، باب بيتنا الجديد بلونه الأزرق الفاتح بمطرقة نحاسية على هيئة رأس أسد، كانت حينها بمثابة الجرس..كما أتذكر وكأنه للتو
جلباب أمي الأسود ونقابها الأسود، شابة في عقدها الثالث. حامل في شهورها الأخيرة، وهي تهم بالنزول من الشاحنة. وإن كنت حينها لا أعرف شيئا عن الحمل أو عن أسبابه....
كانت دراجتي الثلاثية العجلات هي أول شيء أُنزل من سطح الشاحنة. كان ذلك أواخر سنة 1962..
جو غائم مكتئب يخيم على هذا الحي، فزاده على البعد وحشة، الأزقة خاوية على عروشها إلا من طفل في مثل عمري. كان أول شخص خارج رابطة العائلة أتعرفه عليه في هذه الحياة عبد اللطيف دولال، أراد مشاركتي ركوب دراجتي استجبت لطلبه بعفوية طفل يخطو أولى خطواته خارج البيت. غالبية جيراننا كانت هجرتهم للبرنوصي هي الثانية، بعد هجرتهم من البادية إلى كريان سنطرال، باحثين عن فرصة عيش أوسع. حديتي العهد بهذا الحي الهادئ الذي صمم لاستيعاب عشرات الألاف من السواعد التي تترنح تحت وطأة الفقر. تنتج الثروة لفائدة الإقتصاد الفرنسي وأذنابه الذين يستنزفون طاقة أبناء البوادي الوافدين على المدينة الشبح.المحافظين على هويتهم، والمرفوقين بكل حمولتهم وموروثهم وتقاليدهم، مسلحين بمناكبهم. أملهم الصعود في درجات السلم الاجتماعي....
كانت أمي حديثة العهد بنكبة وفاة ابنتها البكر أختي عتيقة.
فكانت أمي تعيش حزنا مسترسلا دائمة الرثاء لصغيرتها التي فقدتها على إثر عملية جراحية.
دخلت المصحة بأمل الشفاء وخرجت محمولة فوق يدي أبي جثة هامدة. أمي لم تتحمل فراق صغيرتها ذات الأربع سنوات. كنت أشارك أمي رثاء فقيدتنا عتيقة. حيث تعودنا على حياة النكد والبكاء والنحيب والرثاء.كان أخي نورالدين الذي يصغرني بسنتين هادئا وطيبا منذ طفولته، ولم تسعفني الذاكرة على تذكر ولادة أخي مراد رغم تذكري لفترة حمل أمي به. خلال هذه الفترة تحملت مسؤولية اقتسام كل المعاناة مع أمي رغم سني الصغير. كنت ابنها البكر وملاذها و مؤنسها في وحدتها، أساعدها في بعض أعباء البيت كالكنس والمسح وغسل الأواني والمساعدة في تربية إخوتي.كما كنت أقوم بمهمة التبضع خارج البيت.كنت رجلا صغيرا بمسؤوليات كبيرة. لم أنعم بطفولتي كباقي الأطفال. كنت أحس أن أمي حينها امرأة غير محظوظة حين اختطفت منها المنايا قرة عينها. كان أبي عامل بسيط بشركة للنسيج. لاتكاد أجرته تكفي إعالة زوجة وثلاثة أطفال ومساعدة والديه بالبادية يشتغل 12 ساعة في اليوم. كنت أراه سعيدا حين ترخص له الشركة بالعمل أيام العطل الأسبوعية والأعياد ،ليس حبا في العمل ولكن كرها في الفقر وتأمينا لمدخول يقيه شر الفاقة. كان طيبا، حنونا، و حليما، بعيد الغضب، كان يكتفي بتوجيه لوم خفيف. كانت أمي تمني نفسها ببنت من حملها الرابع لإخماد حرقة عتيقة لكن خاب أملها بولادة مراد في يناير 1963.....//
رفيق مدريك
الصويرة في 9 مارس2022
مهداة لروح أمي في العيد الأممي للمرأة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق