الأربعاء، 1 يونيو 2022

 ...................

ياسر شلبي محمود

...............



التوبةُ .. بين الدينِ والسياسةِ
الجزء الثالث ـ التوبةُ ذات الصِبغةِ السياسيةِ 2
لعل مما يجبُ التأكيدُ عليه والتذكرةُ به لاثباتِ وقوعِ الشركِ وحدوثِه في الأمةِ ، قبل استئنافِ الحديثِ عن وجوبِ توبةِ التكفيرِ ذات الصبغةِ السياسيةِ .. أنَّ شأنَ الصلاةِ كلُه توقيفيٌ من لدنِ اللهِ تعالى وليس لنبيِّه فيه دخلٌ سوى الامتثالِ والتبليغِ ، ومعنى كونِه توقيفيًا أنه للهِ وحده ، ولاشريك له يُحدثُ فيه تغييرًا ويبدلُ فيه تبديلًا ، ليتفردَ اللهُ وحده دونَ شريكٍ بذلك ليقع به برهانُ الألوهيةِ المطلق ، بحيثُ يكونُ الإحداثُ فيه تألهًا عليه ـ سبحانَهُ وتعالى ـ وظلمًا عظيمًا يقعُ به الشركُ على سبيلِ الحقيقةِ لا المجاز .. والصلاةُ بما فيها من معنىً ومن مغزىً إنما يتماشى معها ذلك التفردُ والتوقيفُ بالامتثالِ المطلقِ من غيرِ إحداثٍ رغمَ أنف كلِ ظرفٍ طارئٍ أو مُدَّعىً ، لأنَّ بها تتحققُ العبوديةُ الحق والخضوعُ والتذللُ للألوهيةِ الحقِ في المطلقِ ، كما أنها ـ أي الصلاة ـ تجمعُ ( رمزًا ) كلَ مفرداتِ الإسلامِ دونما استثناءٍ كما يجمعُ اللفظُ مكوناتِ حروفِه ، فإذا ما نقُصَ منه حرفٌ أو تبدلت أحرفُه فقَدَ اللفظُ معناه ، فكيف يُفهمُ مثلًا لفظُ " كتابٍ " أنه كتابٌ يُتصفحُ ويُقرأُ لو أن اللفظةَ حُذِفتْ منها " التاءُ " أو تبدل معها في الموقعِ حرفُ " الكافِ " ، وكذلك الإسلامُ إن فقد هو مفردةً من مفرداتِه في حقيقتِه وواقعِه العملي أو فيما يُرمزُ إليهِ في شعيرةِ الصلاةِ فإنه يكونُ قد نقُصَ رمزًا وحقيقةً ، وهو ما يُعدُ مخالفةً صارخةً ومعاداةً لأمرِ اللهِ ومرادِه حيثُ أتمه وأكمله ورضيَ لنا ذلك ، ويكونُ نقصانُ الرمزِ في الصلاةِ أشدَ خطورةً من نقصانِه حقيقةً لما للصلاةِ من أهميةٍ تعبديةٍ في معبدِ الإلهِ وبين يديه .. ولما كان اللهُ تعالى أراد بالصلاةِ أن يكون المسلمُ فيها كاملَ الإسلامِ غير ناقصٍ وهو ما لا يمكنُ تحققه خارجها ، فإنَّ رفعَ رمزيةٍ ترمزُ إلى مفردةٍ من مفرداتِ الإسلامِ من الصلاةِ يجعلُ الصلاةَ ناقصةً غير تامةٍ ، مما ينتفي معه بالضرورةِ معنى التفردِ بالألوهيةِ فيما شُرِّعَ فيها فيقعُ التألُهُ عندئذٍ بالإحداثِ والتبديلِ ، كما يقعُ الشركُ بالطاعةِ للمحدثِ وللمبدلِ بما فيه من ظلمٍ وظلماتٍ وهاويةٍ ، وهو عينه ما حدث في الصلاةِ من تباعدٍ حيثُ انتفت به رمزيةُ الجهادِ في الإسلامِ وهو خيرُ عبادةٍ وطاعةٍ بعد الصلاةِ ، استنادًا إلى قولِه تعالى : { إنَّ اللهَ يحبُ الذين يقاتلونَ في سبيلِه صفًا كأنهم بنيانٌ مرصوصٌ } ، ولذلك كانت هيئةُ الصلاةِ بالتساوي والتراصِ ، القدمُ في القدمِ والكتفُ في الكَتِفِ كالبنيانِ المرصوصِ ، الذي بانتفائه تنتفي من الصلاةِ رمزيتا الجهادِ والتكاتفِ أوالتضامنِ المجتمعي مما يجعلُها حتمًا ناقصةٌ كاللفظةِ إذا ما نقُصَ أو تبدلَ منها حرفٌ ، وبنقصانِها يكون قبولُها على المحكِ إن كان التقصيرُ فرديًا من غير تشريعٍ على سبيلِ الإهمالِ ، فما البالُ وقد حدث الإحداثُ والتبديلُ من كلِ الأمةِ بقصدٍ ونيةٍ وتشريعٍ طاعةً للشيطانِ ولوليهِ ترامب ، وهذا برهانٌ آخرَ يُضافُ إلى براهينِ وقوعِ الشركِ بحركةِ التباعدِ ، كما تُنهِي المباراةَ حركةٌ صغيرةٌ لقطعةِ شطرنج .
ولما كان هذا الأمرُ الجللُ هو للغايةِ ـ وهو الوقوعُ في الشركِ بتشريعِ التباعدِ في الصلاةِ ـ من صنعِ قادةِ الأمةِ وأنظمتِها السياسيةِ وقد أطاعتهم فيه الشعوبُ ، فإنه ليس بد من أن تكونَ توبةُ التكفيرِ عنه هي أيضًا من صنعِ هؤلاءِ القادةِ وأنظمةِ الأمةِ الحاكمةِ وإطاعةِ الشعوبِ لهم فيها كذلك ، ولذا كانت توبةُ التكفيرِ ذاتَ صِبغةٍ سياسيةٍ لأنها تتطلبُ بالضرورةٍ أعمالًا سياسيةً فيها مرضاةُ الربِ العظيم ، ويكونُ فيها الوِفقُ بين ما هو في شريعتِنا وفي كتابِنا .. وبين ما أُخْبِرْنا به في رسائلَ اللهِ لنا عن شرائعِ غيرنا ونعني به تحديدًا التكفيرَ عن عبادةِ العجلِ عند بني إسرائيل ، لأنه ما كان لرسائلَ اللهِ أن تُرسلَ دونما عبرةٍ ودونما فائدةٍ .. فليس بدُ إذن ، أن يكون القتلُ ( أي قتلُ النفسِ ) هو محورَ توبةِ التكفير كشرطٍ لغفرانِ الوقوعِ في الشِرْكِ كأكبرِ وأعظمِ ذنبٍ على الإطلاقِ على سائرِ الذنوبِ وبخاصةٍ إذا ما وقعَ من أمةٍ بكاملِها في آتونِ فتنةٍ ، وذلك بكلِ بساطةٍ لأن قتلَ النفسِ بما فيه من أكبرِ برهانٍ ودلالةٍ على صدقٍ وإخلاصٍ العبوديةِ للهِ تعالى ، فإنه لا يكون سواهُ صالحًا ومتناسبًا ـ في التكفيرِ ـ مع أكبرِ وأعظمِ ذنبٍ وهو الشركُ باللهِ ، ومن هنا كان الحصرُ قاصرًا في قتلِ النفسِ في عمليةِ التكفيرِ هذه دون سواه ، فمن البلاهةِ أن يظنَ أبلهٌ بأن غفرانَ الشرك باللهِ في آتونِ فتنةٍ عامةٍ ، إنما يكفي له فقط قولُ " أستغفرُ اللهَ " .. فإنَّ في ذلك بَلَهٌ وعَتَهٌ شديدٌ ، وسفهٌ ليس بعدهُ سفهٌ غير سفهِ إبليس .
يبدو أن الكلامَ صعبٌ إلى حدٍ ما ، وأنَّ الاستغرابَ والدهشةَ قد سيطرا على القارئِ العزيزِ ، إذ كيف ينادي منادٍ في أمتِنا بما وقع لبني إسرائيل من قتلٍ للنفسِ في عمليةِ التكفيرِ وهم على شريعةٍ ونحن على شريعةٍ أخرى ، ولكن مجرى البحثِ هنا يجبُ أن يتحولَ إلى الكيفيةِ وإلى العللِ لتعليلِ ما ذهبنا إليه حتى يطمئنُ سيادةُ القارئِ ويقتنعُ ، ولو نظرنا إلى الحاكمِ الأولِ في هذا الشأنِ لوجدناه يتمثلُ في القاعدةِ الأصيلةِ ( الجزاءُ من جنسِ العملِ ) ، ولما كان العملُ الذي أوقعَ الأمةَ في الفتنةِ إنما هو رفعُ رمزيةِ الجهادِ في الصلاةِ توازيًا مع انتفائِه في الواقعِ العملي السياسي للأمةِ باتخاذِ استراتيجةِ السلامِ كنهجِ حياةٍ وهو عطبٌ وعيبٌ سياسيٌ كبير ، فإنَّ الجزاءَ هنا لا يكونُ إلَّا بإصلاحِ ما فسدَ وكان فيه عَطَبٌ وعيبٌ ، فيعودُ الجهادُ في واقعِ الأمةِ بما فيه من قتلٍ واقتتالٍ قبل عودتِه كرمزٍ في الصلاةِ بنيةٍ صادقةٍ في التوبةِ والخروجِ من الفتنةِ ، أي بتغييرِ الفكرِ الاستراتيجي للأمةِ وإلغاءِ حالةِ السلامِ الهشِ كخطوةٍ أولى مع الاستعدادِ بتحملِ عواقبِ ذلك ، وتلكمُ إنما هي توبةُ التكفيرِ المعقدةُ والتي هي أعلى مرتبةً من التوبةِ البسيطةِ ولذك كانت مجزئةً هي عنها ، بمعنى أن أعمالَ التوبةِ البسيطةِ لا يتبعها بالضرورةِ أعمالُ توبةِ التكفيرِ المعقدةِ ، بينما أعمالُ توبةِ التكفيرِ المعقدةِ مع صدقِ النيةِ فيها ، إنما يلزمُ عنها لزومَ ضرورةٍ أن تتبعها أعمالُ التوبةِ البسيطةِ حقيقةً أو اعتبارًا ، وتكونُ حقيقةً لمن يفلتُ من القتلِ بالجهادِ فيمارسُها أعمالًا توافقًا مع ما قام به من عظيمِ عملٍ وهو الإقدامُ على القتلِ في الجهادِ مفديًا بنفسِه الإسلامَ والإيمانَ في سبيلِ اللهِ ، وتكونُ اعتبارًا في حالةِ الموتِ في توبةِ التكفيرِ لأنه بموتِه في سبيلِ اللهِ يكونُ كمن كان في حياتِه على استقامةٍ في الشريعةِ لأنه لو فلتَ من القتلِ لكان في نهجِ حياتِه من بعدِهِ كمن نجا ، باعتبارِ أن التوبةَ البسيطةَ تحملُ معنى الاستقامةِ على نهجِ الشريعةِ في حالةِ وقوعِها على الحقيقةِ .
والجهادُ الذي نعنيه ، إنما هو جهادُ الكفارِ أولياءِ الشيطانِ ، جهادًا في سبيلِ اللهِ لإقامةِ الدينِ ومحو الفتنةِ ولمنعها مستقبلًا ، وهو جهادُ أمةٍ ودولٍ وجيوشِ دولٍ وليس جهادَ أفرادٍ وجماعاتٍ ، يقول اللهُ تعالى في رسالتِه الساميةِ : { وقاتِلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدينُ لله } .. ذلك أن إقامةَ الدينِ هو أهم وأسمى غايةٍ لأن به تتحققُ الغايةُ العظمى من خلقِ الخلقِ ألا وهي عبادةُ اللهِ عز وجل ، ولذا شُرِعَ القتالُ لمنعِ الفتنةِ التي تحولُ هي دونَ ذلك ، وهو ما قد تحققَ بمفهومِ المخالفةِ في فتنةِ كورونا ، حيث تسبب تركُ القتالِ والخلودُ إلى الأرضِ زمنًا طويلًا ، في تحريفِ الدينِ وهدمِه والوقوعِ في الشركِ بإطاعةِ الشيطانِ في ذلك التحريفِ والهدمِ وهو ما تكللَ واكتملَ بفتنةِ كورونا ، مما استلزمَ حتمًا توبةُ التكفيرِ قبلِ غلقِ بابِها بخروجِ الدابةِ إن كان هذا هو زمن خروجها حسبَ ما بينتُ في شأنِها ، وإن لم يكن هذا هو زمنها لإمكانيةِ استبدالِ جيلٍ بجيلٍ بدل الإنهاء غير أنه غيرُ راجحٍ عندنا إلَّا أنه ممكنًا .. فإن ذلك يجبُ ألَّا يُقدِّم أو يؤخِّر كثيرًا في وجوبِ توبةِ التكفيرِ ، لأن عدمَ اليقينِ في خروجِها لا يعني اليقينَ بتأجيلِ خروجها ليكون مجرد الشك في الخروجِ أوعدمِ الخروجِ أكثرَ مدعاةً للتعجيلِ بتوبةِ التكفيرِ بما يتوافقُ هو مع حقيقةِ الإيمانِ ومع سلوكِ المؤمنِ الحقِ الذي يضعُ دومًا نصبَ عينيه مصيرًا أبديًا في الآخرةِ .
وزبدةُ القولِ ههنا ، أن توبةَ التكفيرِ واجبةٌ وجوبَ الروحِ لبثِ الحياةِ ، وبغيرِها فالموتُ والعدمُ واللاحياة ، وتكونُ الهاويةُ من السماءِ إلى حيثُ لا قرارَ ولا استقرارَ .. وأنها ( أي توبةُ التكفيرِ ) ليست إلَّا إصلاحُ الشأنِ السياسي للأمةِ بتغييرِ فكرِها الاستراتيجي ، مع ضرورةِ تحمل عواقبِهِ العسكريةِ التي تعكسُ جوهرَ التوبةِ في أمتِنا على خلافِ توبةِ بني إسرائيلَ التي كانت فقط قتلَ أنفسِهم من غيرِ جهادٍ .. ذلك الفكرُ الاستراتيجي الذي يجبُ تغييرِهِ ، إنما قد بينتُ خطأَهُ وبطلانَهُ فيما قدمتُه مِن فكرٍ حتى الان ، لما تنطوي عليه القاعدةُ العلميةُ المستندةُ عليها الأمةُ في بناءِ فكرِها الاستراتيجي من بطلانٍ وخطأٍ يتمثلُ في انتظارِ نصرٍ وناصِرِينَ قدريينَ من غيرِ حولٍ منا ولا قوةٍ ، وهي في سبيلِ ذلك تخضعُ وتخنعُ لكلِ ابتزازٍ وتهديدٍ وهو ما يأباهُ الإسلامُ الحق ، حيثُ لا خضوعَ ولا خنوعَ في الإسلامِ قط .
ياسر شلبي محمود
كاتب ومفكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق