الخميس، 30 يونيو 2022

.................

ياسر شلبي محمود

.................




إستراحة أدبية .. ( مسرقصة من فصل واحد )
انتحارُ الحاكمِ بأمرِ شيطانِه
المشهد الأول
تبدو الغرفةُ قاتمةٌ فلا يُرى فيها شئٌ ، إلَّا مِن بقعةِ ضوءٍ مسلطةٍ على جسدِه المسجى على سريرٍ بوسطِها ، حيثُ كان يغطُ في نومٍ عميقٍ قَطَعَهُ في اللاشعورِ لديهِ زائرٌ غريبٌ لم يعثر على شبيهٍ له في تلك العصورِ الحديثةِ قط .. لم يكن يعلم يقينًا مذ أن وضع الغريبُ يدَهُ على جسدِه ليوقظَهُ ، أأيقظهُ هو حقًا أم تراهُ حُلمًا قد تراءى له في نومِه ، غيرَ أن المؤكدَ عندهُ وأيقنهُ تمامًا أن هناك شخصًا ما قد أيقظهُ ، وله بزةٌ ليس لها صلةٌ قط بأي موضةِ منذ بدايةِ القرنِ العشرينِ ، ولا لعمامتِه التي تلفُ رأسَهُ مما دعاهُ وهو يفركُ عيْنَيهِ بأصابِعِهِ أن يسألهُ بعد أن ضغط على زرِ الكهرباءِ فأنارَ المصباحَ :
ـ مَنْ أنت ؟
تحرك الرجلُ الغريبُ إلى طرفِ السريرِ ليجلسَ فيما خلى من جسدِه أمامَ رجليه ، ونطق لأولِ وهلةٍ بلهجةٍ لم يكن قد عهدها من قبلُ سوى في مسلسلاتِ التلفازِ التاريخيةِ ، إلَّا أنها كوميديةً بعضَ الشئِ كهيئةِ بزتِه وعمومِ شخصيتِه :
ـ قم أولًا فإني جئتُك في مهمة خطيرة .
نعم نطق " في مهمة خطيرة " من غيرِ تشكيلٍ وبفخامةٍ في النطقِ أثارت دهشتهُ ، إلَّا أنها في ذات الوقت حركت مشاعرهُ إلى البهجةِ والاهتمامِ ، وأخذ يلملمُ جسدَهُ وشتاتَ نفسِه حتى استقرَ به الجلوسُ مستندًا على السريرِ في اتجاهِ الوسادةِ ثم أعادَ عليه سؤالَهُ في إصرارٍ تدلُ عليه اللكنةُ والعصبيةُ .
ـ مَن أنت ؟
فزَّ الرجلُ فجأةً من مكانِهِ واقفًا ، وأخذ صدرُهُ يصعدُ وينخفضُ بفعلِ الشهيقِ والزفيرِ كمن يستعدُ لأداءِ خطبةٍ في محفلٍ وفي جمعٍ من الناس ، وبأداءٍ تمثيليٍ قال :
ـ أنا الخليفة الفاطمي .. الحاكم بأمر الله .
ـ انت بتستعبط يا رجل انت ؟
قالها بلهجةٍ دارجةٍ بعد أن سيطرَ عليهِ الاندهاشُ الممزوجُ ببهجةٍ شديدةٍ غيرَ خافيةٍ وكأنهُ أمامَ مهرجٍ مضحكٍ ، غيرَ أن الرجلَ راحَ يُقسمُ باللهِ على صدقِه ، وأنه فعلًا الحاكمُ بأمرِ اللهِ الخليفةُ الفاطمي .. أخذتْ منه برهةٌ من الزمنِ شَرِدَ فيها ذهنُهُ ، وراح في حالةٍ من الاستغراقِ الفكري والتأملِ في شأن الرجل ، وخلالها نزل من فوق السريرِ ليكون أمامَ الرجلِ وجها لوجهٍ في تأملٍ وفحصٍ .. أليستْ لكنتُه وبزتُه وغرابةُ شخصيتِه يدلونَ على صدقِه ؟ .. ألمْ يكن التاريخُ يُخبرُ عن اختفائِه وعدمِ معرفةِ مصيرِهِ إلَّا تكهنًا بأنه قُتِل .. إذن فليمضِي مع الرجلِ فيما أخبرَ به ، والوقتُ كفيلً أن يسبرَ غوْرَ حقيقتِه .. مرت لحظةُ التأملِ والتفكيرِ ومضت ، وفاق " محسن " على نحيبِ الرجلِ الهستيري وهو يرجوهُ محاولًا تقبيلَ يدِه أن يصدقهُ ، وما إن أخبرهُ " محسن " بتصديقِهِ له حتى عادَ منتشيًا في نفخةٍ تشبهُ تلك النفخات الكاذبةِ .. كان " محسن " الذي يعمل معيدًا في قسم التاريخِ بكليةِ الآدابِ يحلُمَ أن يكونَ مؤرخًا عظيمًا ، وبخاصةٍ أنه يعملُ كاتبًا في إحدى الصحفِ اليوميةِ ، وعلى صفحةٍ من صفحاتِ الفيسبوك ، وعلى ضوءِ هذهِ الخلفيةِ دار الحديثُ بينه وبين الرجلِ الغريبِ .
محسن : عمومًا أنا أعلمُ من التاريخِ أنك اختفيتَ في ظروفٍ غامضةٍ ، ولا أستغربُ أنك مازلت حيًا .
الحاكم : لا ، لا .. أنا لستُ حيًا بل مِتُ من زمن طويل ( مادًا في كلمةِ طويل ) .
محسن : ( في اندهاشةٍ وسخريةٍ ) أيه يا عم الحاج .. انت هتعود لهبلك ولا أيه ؟
الحاكم : أنا أقول الحقيقة ، فأنا روح ولستُ جسدا ، ولن يراني أو يسمعني غيرك .
محسن : ( بعد أن انتابته قشعريرةٌ وبعضُ خوفٍ ) وانتَ عايزني أصدقك إزاي في حاجة زي دي ؟
الحاكم : ( أخذ يزومُ ممسكًا ذقنه وممشطًا لحيتَه بأصابِعِه ) أمم ، أمم .. يمكنك مد يدك في جسدي فلن تجده .
( انتابت محسن رعدةٌ وخوفٌ غيرَ خافٍ زادَ كثيرًا بعد أن مد يده في صدرِه فلم يجده )
محسن : ( يبتلع لُعابَهُ ) يا نهار اسود .
الحاكم : ( مهدئًا من روعه ) لا تخف فأنا روح لا أستطيع إيذاءكَ ولا تستطيعَ أنت ذلك معي .
محسن : ( محاولًا استعادة نفسِه ورباطة جأشِه ) وماذا تريدين مني أيتها الروح ؟
الحاكم : بل قل لي أيها الخليفة ، فأنا الحاكم بأمر الله ( قالها في نفخةٍ وعظمةٍ بلكنةٍ مضحكةٍ ) .
محسن : ( مبتسمًا بعد هدوءٍ ) إذن ما هي حاجتُك إليًّ .. أيها الخليفة ؟
الحاكم : اكتب عني كتابًا يُمجدُني ، واكتب فيه أنني أعظم حاكم في التاريخ .
محسن : ( مندهشًا ) كتاب ؟ .. أعظم حاكم ؟ انت بتقول ايه يا راجل انت ، بقى الحاكم بأمر الله الفاطمي هو أعظم حاكم في التاريخ ؟ .. دي كانت تبقى كارثة لو قلت كده .
الحاكم : ( باكيًا ومنكفئًا على يدي محسن يريد أن يقبلها ) أرجوك يا سَيدي ، فنحن في عالمنا الآخر نعرفُ صدقك في الكتابة ونبل غايتِك .
محسن : ( بعطفٍ ) طيب طيب ، خلاص .. لكن على أي أساسٍ ترى نفسك عظيمًا .. وما هو المعيار ؟
الحاكم : ( منتشيا ومنتفخا ) جئتُ بما لم يأتِ به الأولون ولا المستأخرون ، فقد جعلت العمل ليلا والنوم نهارا ، ومنعت أكل الملوخية والجرجير عشان مكنتش بحبهم ( يضحك ثم يصطنع الجِد ) وأيضا جعلت آذان الظهر في السابعة صباحا .
محسن : ( تفلت منه ضحكةٌ سرعان ما كتمها ) روح يا شيخ جتك نيلة وانت كده شكلك أهبل وعبيط .
الحاكم : ( مستمرا في ضحكٍ هستيريٍ ) امتطيتُ حماري ذات يومٍ وكنا في عز الظهر ، فقابلتُ فلاحا على قارعة الطريق الزراعي فنهرتُه قائلا ( انت ازاي يا راجل انت تفضل صاحي للوقت ده ) ، أتعرف بماذا رد عليَّ ( يزيد ضحكه ) ، قال اعذرني يا مولاي فأنا سهران شوية لأن مجاليش نوم .. أخذني على قد عقلي وهذا ما أعجبني ( يضحك ) .
محسن : ( متعجبا وفي دهشةٍ ) تصدق إنك راجل أهبل بجد ( يزيد ضحكه فينهره محسن ) خلاص بقى كفاياك ضحك ( ثم في نفسِه ) أما صحيح راجل مجنون ( ثم له ) إزاي انت مبسوط أوي من وصفي لك بالهبل .
الحاكم : ( يتوقف عن الضحك رويدا ) لأني روح لا أغضب من الحقيقة ولا أكذب .
محسن : تمام .. طالما الأمر كذلك ، إذن نعود لموضوعك الذي اتيتَ من أجلِه .. أنا سأشترط عليك شروطا إن قبلتها نفذتُ لك ما تريد .
الحاكم : ( مستشعرا الأمل ومبتهجا ) هل ستكتب عني كتابًا يخلدُني وينصفني ؟
محسن : نعم ، إن قبلت شروطي .
الحاكم : إذن سأقبل .. قل لي شروطك .
محسن : أولًا ـ يجب أن تتخلى عن لقبك " الحاكم بأمر الله " طيلة وجودك معي ، على أن تكون الحاكم بأمر شيطانِه ، لأن اللهَ برئٌ مما حكمتَ به .
الحاكم : ( يلُف حول نفسِه فرحا ) دي وصفة سهلة ، دي وصفة هايلة ( يكررُها ثم يتوقف وينتهي رقصه ) موافق لأنها الحقيقة وأنا كما تعلم روح ولا .......
محسن : ( مقاطعه ) أعرف ، فأنت روح ولا تغضب من الحقيقة ولا تكذب .. إليك الشرط الثاني ( الخليفةُ ينتظر بشغف الأطفال ) لن أكتب الكتاب إلَّا أن يثبت فعلا أن ما قمتَ به لم يأتِ بمثلِه الأولون ولا المستأخرون ، فإن فعل أحدٌ فعلك أو أكثر منك فلن أكتبَ الكتاب . .
الحاكم : ( يعبثُ بأصابِعِه في لحيتِه ) امم .. لكن كيف لي أن أثبت لك ذلك ؟
محسن : بل أنا الذي سيثبتُ لك أن حكامنا وشعوبنا على السواءِ في عصرِنا هذا ، قد فعلوا ما يفوقُ بكثيرٍ نوادر الحاكم بأمرِ شيطانِه ، بل ويفوقُ كثيرًا نوادرَ جحا .
الحاكم : وأنا قد قبلت .
محسن : حسنًا ، إذن سأبدأ معك الآن ، من هذا الجهاز ( يشير إلى اللابتوب ثم يهمُ ليفتحه ) أتعرفَ ما هذا ؟
الحاكم : نعم إنه اللابتوب ، فنحن الأموات نعرف عنكم كل حاجة ، وكمان نعرف الفيسبوك .
محسن : جميل جميل ، ما شاء الله ما شاء الله .. إذن تعال معي لأُريك أولَ نادرةٍ وأندرَ مفارقةٍ يقوم بها شعبنا العظيم .. أنت طبعا اعترفت أنكم في عالم الموتى تتابعونني وتثقون في فكري .
الحاكم : نعم هذه حقيقة لا انكرها لأني ...
محسن : ( مقاطعا له ) أعرف ، أعرف إنك روح والحقيقة لا تنكرها مثل ما ينكرُها الأحياء ، إذن تعال وانظر .. اتفرج يا حبيبي اتفرج .
كان ليس بد أن يُطلعَهُ " محسن " على مفارقات الفيسبوك ، التي هي إنعكاسٌ طبيعيٌ لمفارقاتِ حياةِ المجتمعِ العربي وطريقةِ تفكيرِه ، وكيف أن المنشورَ التافِهَ يلقى رواجًا ، بينما يلقى المنشورُ الجادُ والهادفُ إنعزالًا وصدًا ، كما أن الصورةَ الجميلةَ أو شبه العاريةِ صارت مصدرَ جذبٍ واهتمامٍ وقبولٍ للمنشورِ ، بل صارت خِطامًا مربوطًا في شواربِ الرجالِ يجرُهم جرًا ، وياللعارِ ..
محسن : أتعرفَ ما هذا ؟
الحاكم : نعم ، هذا منشور من منشوراتك القيمة ، يبينُ داءات الأمة ويشرحُها حتى يجري العملُ على مداواتِها ، إنه مقال عظيم .
محسن : أترى حجمَ التفاعلاتِ عليه .. إنها كما ترى ضئيلةٌ جدا ، بينما كان يجب أن يكون مثار نقاشٍ واسعٍ لا ينتهي .
الحاكم : ( بلكنتِه المتفخمة ) هذا صحيح ، وبخاصةٍ مع وجود الملايين الذين يرون وجود أمة قوية ضرورة .
محسن : انظر هنا إلى هذا المنشور .. إنه إعلانٌ يظهرُ فيه طباخٌ يتذوقُ حلوى .. انظر كم حصد من تفاعلات .
الحاكم : ( ينجذب إلى الحلوى طالبا إياها بفمِه ) اللهْ ، ما أحلى هذه الحلوى .. ليت كان جسدي معي فألتهمُها التهامًا .
محسن : يا دي المصيبة .. ما انت زيهم وهم زيك كلكم همه على بطنه .. كيف تعرف إذن المفارقة لتفهم النادرةَ هنا ؟ .
الحاكم : أفهمها لأني روح أعرف حقيقة الأشياء لكني اشتهيت الحلوى بطبيعتي وأنا حي .
محسن : وماذا عرفت إذن عن حقيقةِ ما شاهدت ؟
الحاكم : أنه بالرغم من رِخَصِ قيمةِ هذا الإعلان إلى جانبِ قدرِ وقيمةِ منشورك الثمين من حيث أهميته للأمة ، فإنه قد حصد إلى الآن ما يربوا على الخمسين ألفا وتعليقاتٍ لا حصر لها .
محسن : كويس أوي ، ممتاز .. أعرفُ أن كونك روح منفصلة عن جسدِك القذر قد هون عليَّ كثيرا .. تعال اقرأ هذا المنشور وأسمعني .. سمعني يا خويا واشجيني .
الحاكم : ( يقرأ منشورا نُشِرَ من ساعةٍ واحدةٍ ) " شكاليطة ، شنقليطة ، بنقليطة .. روح اخبط دماغك يا حبيبي ، في الحيطة ( يضحك ويعلو ضحكه ) جميل ، جميل ( يعيد قراءته متغنيا ) .
محسن : وانظر إلى هذا المنشور أيضا ، شوف بيقولك إيه " يا عم يا نجار .. تعالى خُد المنشار ، لأنك صاحب المنشار .. يا عم يا نجار " ( ساخرا ) اللهْ اللهْ اللهْ .. شوفت التفاهة يا سي حاكم بأمرِ شيطانِه ؟
الحاكم : نعم ، بس شكاليطة عجبتني أكثر ( يضحك ) .
محسن : هل رأيت كم حصدَ من التفاعلات ، إنها لا تُعد ولا تُحصى .
الحاكم : نعم ، غير كم التعليقات الهائل في قائمةٍ تطول على القارئ .. إنها حقًا نادرةٌ من نوادرِ الزمانِ ، ومفارقةٌ من نوعِ ما كنتُ أصنعُها صناعةً في المجتمع ، ومثلُ هؤلاءِ كمن تركوا الطيبَ من الطعامِ وانهالوا على النتنِ منه .. لكن هذه نوادر طبيعية يصنعُها الشعبُ ويجب أن تكون المقارنة بيني وبين مَن يحكمون مثلي .
محسن : اصبر ، هو انتَ لسه شوفت حاجة .. دا انت ستقتل نفسك كمدًا وخجلًا مما سترى ، وستعرفَ أنك ما فعلت شيئا يستحق التفوق والانفراد .
الحاكم : ( يُخرج من جيبِه مسدسا ) وها هو المسدس قد أتيتُ به لأنفذُ حكمك ( يُطلق طلقةً ناحية السقف ) .
محسن : ( فزِعا ) يخرب بيتك ، من أين أتيتَ به ؟
الحاكم : حصلتُ عليه في طريقي ، وهيا ارني حيث شوقي الشديد لاستخدامِه .. إما في رأسي إن أنا فشلتُ ، وإما في رأسك أنت في حالِ فشلِك إثبات ما تدعيه .
محسن : ( ماسكا رأسهُ بكلتا يديه ) يا دي المصيبة ، يا دي المصيبة .. عموما أنا واثق أنك ستنهزم وأنك سوف تطلقه في رأسك هذا الذي يشبه الكُرُنبة .. ( كأنه متذكرا شيئا ) أووووه ، لقد نسيتُ منشورات الشاعرات وعجب العُجاب ، والصور الجميلة .. ولم أخبرك بعد عن ظاهرة الأصدقاء الذين ما أن أقبل طلبات صداقتهم حتى يدخلوا صفحتي فقط ليبحثوا عنهن فيها ، ولم ترهم عيني بعدها إلَّا تحت منشوراتِهن باصمين بالعشرة ( يفردُ أصابعَ كلتا يديه ) ، بينما لم أقبله أصلًا إلَّا ليطَّلع على ما أصوغه له من فكرٍ لأنه معنيٌ وذو صلةٍ بفكري حيث لم أكن أفكرُ لنفسي .. هييه ، هل رأيت ؟ .
الحاكم : نعم ، لقد فهمت واستوعبت ذلك جيدا ، فواللهِ إنها لنوادر تفوق نوادري ونوادرَ جحا نفسه .
محسن : إذن ، هيا بنا ننطلق إلى الشارعِ حيثُ الواقع ، حتى ترى ضآلةَ عملِك أيها الحاكمُ بأمرِ شيطانِه ، عشان تروح تدفن نفسك في التراب من تاني .. ( ضاغطا على نواجذه ) ونرتاح منك .
الحاكم : ( متشوقا ) هيا بنا .
المشهد الثاني
( يتغير المشهد حيث ميدانٌ واسعٌ لكنه يبدو خاليا تماما من المارةِ إلَّا من القلةِ القليلةِ من الناسِ )
الحاكم : ( واضعا يده فوق حاجبيه ليظلل بها عينيه من شعاع الشمس ) ما هذا الهدوء .. أتراني عدتُ إلى دار الموتى ؟
محسن : لا ، لكننا ومن حُسن الحظِ في شهر رمضان حيث السهر والعمل طول الليل ثم النوم نهارا إلى ما يقرب من الظهيرةِ ( ناظرا له بشئٍ من افتخارٍ وسخرية ) أليس ذلك ما تفتخر أنت بأنك فعلته ، حيثُ نيمتَ الناسَ نهارا وأسعيتهم ليلًا ؟ .. هاهم قد فعلوه بأنفسِهِم طيلةَ عامِهم .. من غيرِ حاكم ولا سلطان .
الحاكم : لكن لم يفعله أحدٌ قبلي ولذلك فإنه يُنسب لي وحدي .
محسن : لكننا فعلناهُ بعدك بمقدرة وتفوق فلا تقلق ، حتى الموظفين حين يذهبون إلى عملِهم في وقت متأخر ستجدهم نائمين على مكاتبهم .
الحاكم : ( يزوم ناظرا إلى الطريق ) امم ، وما هذه الطريق المتكسرة .
محسن : هي دليلُ التفوق الأكبر عليك .. على الحاكمِ بأمرِ شيطانِه .
الحاكم : وكيف ذلك .. ألا تخبرني ؟
محسن : هذه الطرق كانت مرصوفةٌ بالأسفلت منذ مدةٍ قصيرة والآن يزيلونَ الأسفلت ويُكسرونَهُ كما ترى ، وهكذا يفعلون في كل القرى التي تدخلها مشاريع المعونة الأمريكية .
الحاكم : ( يبدو نافذ الصبر ) لكن ، ما سببُ هذا التكسير .
محسن : السبب يا سِيدي انهم يبدأون أولًا بالرصف ، ثم تأتي خدمة تجديد مواسير المياه تحت الأرض فيزيلو الرصف من أجل التجديد ثم بعد الانتهاء يعيدوا الرصف من جديد .. ثم يزيلوه بعد مدة قصيرة .
الحاكم : ( تبدو عليه ملامح الاندهاش والبهجة ) ولِمَ يزيلونه مرة أخرى ؟
محسن : عشان جاء دور كابلات التليفون الأرضية فلازم يزيلوه .
الحاكم : ( ضاحكا ) وهكذا تبقى الطرق من غير رصف لأنه لا يمكن إعادته للمرة الثالثة .
محسن : لا ، فالرصف أمرٌ حيويٌ في اللعبة كي نتفوق عليك يا عزيزي ، فهم يرصفونه للمرةِ الثالثةِ .. لكنهم بعد قليلٍ يكسروه من تاني .
الحاكم : ( غارقا في الضحك ) دي لعبة حلوة أوي ومسلية .. ( ثم في شوق ) لكن لماذا التكسير الأخير للرصف ؟
محسن : لأنه جاء دور الصرف الصحي ، فلازم من أجل المدنية إنه يكون فيه صرف صحي .. مش كده ولا إيه ؟
الحاكم : ( في انبساط ) نعم ، نعم ، ومن أجل أن تستمر اللعبة .. لكن ، هل يتوقف الرصف هنا ؟
محسن : لا ، وهل دا معقول .. يتوقف إزاي فهم يقومون بالواجب ويرصفونه من جديد .. بس بقى في غمضة عين بيكسروه تاني .
الحاكم : ( يبدو مسرورا ومتشوقًا ) ولِمَ هذه المرة ؟ .
محسن : شوف يا سِيدي وما سيدك إلَّا أنا .. المرة دي لأسباب متعددة ومستمرة ، فلازم يدخل الغاز إلى المنازل عبر مواسير تحت الأرض ، كما إن عمليات الصرف الصحي وحفر الأرض بأعماق غائرة قد قطع كابلات التليفون وكسر مواسير المياه وحاجات تانية كتير .. بس بقى المرة دي تظل عمليات العطل والإصلاح مستمرة ومتلاحقة فتضيع من الطرقات معالم الرصف تماما ، وتفسد الطرق عما كانت عليه بادئ الأمر ، والخدمات نفسها تبقى زي الزفت .
الحاكم : عفارم عفارم .. هذه أعمال في غاية الإبداع .
محسن : ( مستنكرا ) أتراها أعمالا حسنة ؟
الحاكم : لا ، لا .. فأنا روح وأرى الحق حقا والباطلَ باطلا .. لكنها أعمال مبدعة حسب سياستي أنا ، لما كنت الخليفة الحاكم بأمر ....
محسن : ( مقاطعا ومحذرا ) هيييه .
الحاكم : ( مستدركا ) بأمر شيطاني .. لا تخف فأنا روح ولا أُنقض اتفاقا أبدا .. لكن ، لمَ فعلوا هذا وكان يمكن أخذ الأولوية والترتيب في الاعتبار ؟
محسن : ( ساخرا ) وهو دا معقول ، وازاي تبقى فيه تنمية مستدامة .. هو احنا نقدر نزعل الأمم أو الولايات المتحدين برضو ( يشبك كلتا يديه في بعض ) .
الحاكم : نعم فهمت ، و أكبر معبر عن هذه السياسة ، إنما هي صورة مَن يحرث في بحر ، أو كمَن يعدو في مكانه أو للخلف ، يعني بيجعلوا الحياة تسير بطريقة " الفلاش باك " .
محسن : ( ضاحكا ومندهشا ) فلاش باك يا خليفة .. انت كمان عارف هذا المصطلح الشائع ؟ ( يخبط كفا في كف ) .
الحاكم : نعم ، فنحن الأموات نعرف عنكم كل شئ وأنتم لا تعرفون عنا شيئا ( يلفت نظره امرأتانِ إحداهما تضحك بهستيريا والأخرى باكيةٌ بحسرةٍ وذل ) ما قصةُ هاتين المرأتين ؟
محسن : تعال لنرى ونعرف ، لكن لا تكلمني فأكلمُ نفسي في نظر الناس ، فهم لا يرونك .
اتجه محسنُ والحاكمُ بأمرِ شيطانِه نحو المرأتينِ المتناقضتين في حالتيهِما ، والجالستينِ على رصيفٍ أمام مكتبِ تموينَ حكومي .. كلتا الإثنتينِ عجوزٌ ومسنةٌ ، تبدو على ملامحهما الفاقةُ والجهلُ والأميةُ .. كانت إحداهما تمسكُ في يدها تليفونا محمولًا وتضحكُ ضحكًا هيستيريًا ، بينما كانت الأخرى المقابلة لها تبكي بكاءً مُرًا كأنها الطفلةُ وقد فقدت والديها في التوِ واللحظةِ ، حتى بدتْ عليها المسكنةُ وأُثيرت لأجلِها كلُ شفقةٍ .. أخذ محسن يتلمسُ الخطى حثيثا ـ حيثُ الدهشةُ والفضولُ ـ إلى الضاحكةِ منهما مشيرًا إلى الحاكمِ أن يتبعه :
محسن : ( على استحياءٍ كأنه الخوف ) صباح الخير يا أمي .
المرأة 1 : ( محاولةً إنهاءِ الضحكِ من غيرِ جدوى ) يصبحك بالخير يا ضنايا .
محسن : ( بنفس اللهجةِ لكن بتلجلجٍ وترددٍ ) بعد إذنك يعني .. ممكن أعرف إيه اللي بيضحكك ؟!
المرأة 1 : ( مازالت تضحك إلا أنها تحاولُ إسكاتَ ضحكِها ) واللهِ يا ابني ما انا عارفة أقول لك أيه ، أهو على رأي المثل هَمْ يضحك وهَمْ يبكي .. بس اللي بيضحكني ومش قادرة أمنع الضحك عني هو شيلي للمدعوق ده ( تشير إلى الموبايل في يدها ) .. اللي عمري ما مسكته بإيدي ولا حتى نطقت اسمه ، ولا له عُوُزَةْ عندي خالص .
محسن : وليه شِلْتِيه طيب ؟
المرأة 1 : أعمل أيه ، الحكومة أجبرتني عليه .. قال إيه ، عشان آكل واشرب .. ومن غير كده مش ممكن أذوق طعم الأكل .
محسن : ( ناظرا كمن وجد ضالته إلى الحاكم وفي همسٍ وخلسةٍ ) أرأيت .. إسمع واشْجِي من الطرب .
المرأة 1 : ( تواصل حديثها بعد أن هدأ عنها الضحكُ رويدا ) كان فيه من يومين راجل متعلم واقف معانا هنا بيقول : إن احنا عايشين عصر الراجل المجنون ابن فاطمة الحاكم بأمر ربنا .. يعني إيه الكلام ده يا خويه ، فهمني ربنا ما يجوعلك بطن .
محسن : ( تلمع عيناه كاتما ضحكةً وملتفتا إلى الحاكم الذي يبدو مبتهجا ) لا يا أمي ، هو يقصد الخليفة الفاطمي اللي كان مسمي نفسه الحاكم بأمر الله ، إنما هو كان بيحكم بأمر شيطانِه .
المرأة 1 : أيوة أيوة هو ده اللي قاله ، مظبوط بس أنا مبعرفش الكلام .. طيب ممكن يا ابني تعرفني المخروب ده بيدور إزاي ( تشير إلى التليفون المحمول في يدها ) ؟
محسن : ( في تعجبٍ وحسرةٍ ) للأسف يا أمي مش هتعرفي تستخدميه ، وكمان مش هتلاقي حد يكلمك عليه ( يتركها ويذهب إلى المرأةِ الباكيةِ فتأخذه شفقةٌ عليها ) .
محسن : ( يجلس أمامها القرفصاء في حنانٍ وشفقةٍ ) مالك يا أمي .. هل لي أن أساعدك ؟ ( ترفع رأسَها بعد انكفاءٍ وتنظر إليه نظرةَ مَن وجد مؤنسًا فتعزُ عليها نفسُها ويزدادُ نحيبُها فيزيدُ محسن عليها شفقةً ويعتصرُ ألمًا ) .. أرجوكِ يا أمي أخبريني ما بكِ ؟
المرأة 2 : ( محاولةً تجفيفِ دموعها ) لا أعرف ماذا أقولُ لك ، بس الحكومة طلبت تحديث بطاقة التموين واشترطت أن يكون لي خط تليفون محمول باسمي عشان أحصل على رغيف عيش أو على سلع من التموين ، لكني امرأة ضعيفة ولا حيلةَ لي أبدا ( تبكي ) .. أنا متأكدة إني مش هعمل اللي هم طلبوه ده ، وبفكر هعمل أيه بعد كده وهعيش إزاي .. وكمان خلوا نهاية الشهر آخر ميعاد لإنهاء المهمة .. بقى ده يرضي ربنا .
محسن : لا تبتأسي يا أمي .. اعطيني عنوانك وسأنهي لك كل الإجراءات .
المرأة 2 : ( بحصافة وحنكة ) لا يا ابني .. ده مش هو الحل ، فالمشكلة مش مشكلتي لوحدي .. دي مشكلة ناس كتير وأسوأ مني .. فيه يا ابني اللي مش قادرة تخرج من بيتها ، ولا هي لاقية حد يسأل عنها ولا ينشغل بها ، إنما الكل مشغولين عنها يا ابني ولو كانوا أبنائها ، فما بالك باللي جعلتها ظروفها وحيدة .
محسن : ( ينهضُ واقفا معتصرا ألما وحسرةً ) عندك حق يا أمي ، فالمشكلة أكبر بكثير ، ومهينة حتى لمَن يملكون خط تليفون بأسمائِهم .. إذ كيف تخضعُ المعيشةَ والطعامُ إلى الشروطِ والمساومةِ ولو استطعنا تحقيقها .. ؟ وما هي العلاقةُ بين رغيفِ خبزٍ مُدَعَّمٍ .. وبين امتلاك تليفون موبايل سوف يستنفذ أموال الناس محل الدعم ؟! ( ملتفتا إلى الحاكمِ ) هيا بنا لنعود فهذا كافٍ جدا وليس بعده شئٌ يُقال .
الحاكم : لكن ...
محسن : ( يفطن لما يريد قوله ) سنتفاهم ، لكن هناك حيثُ جئنا .. فإلى البيت .
يتحركون للانصراف .. وبينما المشهدُ يكتنفه التناقضُ في حالِ المرأتينِ بالضحكِ والبكاءِ .. تنزلُ الستار .
المشهد الثالث
هو ذاتُ المكانِ الذي زار الخليفةُ فيه محسنَ .. إنها غرفةُ نومِه التي في الغالبِ يوجدُ بها كلُ حاجاتِه من مكتبٍ ودولابٍ و" لابتوب " الذي أغناهُ كثيرًا عن الأوراقِ والأقلامِ لكن ليس بصورةٍ كليةٍ ، وإنما فقط في الغالبِ أو العمومِ ، غير أنها الآن مضيئةٌ بوهجِ شمسِ الضحى ، على عكسِ المرةِ الأولى التي بدأت فيها الزيارةُ فجرًا حيثُ الظلامُ الدامسُ .. كان محسنُ لا يزالُ متأثرًا بحالِ المرأةِ الباكيةٍ ، ومشفقًا على المرأةِ الساخرةِ من حالِها .. وفي المجملِ على المجتمعِ بأسرِه .. فكلُ ما يجري فيه إنما هو خبلٌ في خبلٍ ولا يمطُ إلى العقلِ بصلةٍ ، لا من قريبٍ أو من بعيد ، ويتناقضُ تماما مع الواجبِ أن يكون .. كان يقطعَ المكانَ في غرفتِه جيئةً وإيابا شابكًا كلتا يديه خلف ظهرِه ، ورأسُه مشحونٌ بفورانِ فكرٍ ، وصدرُه مملوءٌ بثورةٍ تريدُ أن تنفجرَ .. وبينما كان محسنُ على تلك الحالِ ، كان الخليفةُ " الحاكمُ " يترقبُهُ على شوقٍ أن يهدأ وتعودُ إليه طبيعتُهُ التي عرفه بها مرحا ، طيبا ، لينا ، حتى أدرك محسنُ ذلك بنفسِه فأخذ يُهدئ من روعِ نفسِه بنفخةٍ ونفختينِ من فمِه ، وكأنه أراد بهما إخراجَ ثورةَ صدرِه وإسكاتَ فورانِ رأسِه ليخلوانِ تماما لضيفِه :
محسن : ( للحاكمِ بجديةٍ ) أرأيت بنفسِك ماذا يجري في عصرِنا ؟ .. هل كنت تحلمَ أن تراه يوما ما .
الحاكم : كنت أتوقع استمرارَ سياستي من إحداثِ نوادر ومفارقات طالما الحكم الفاطمي باقِ ، لكن بصراحة لم أتوقع قط أن تكون بهذا الحجمِ ، أوأن تمتزج النوادرُ والمفارقاتُ بالتراجيديا .
محسن : نعم ، فهي الكوميديا المبكية .. لكن اعلمْ أن الكثيرَ والكثيرَ لم أخبرك به بعدُ .. فالناسُ يقتلونَ أنفسَهم بأيديِهم من ضجيجٍ في شتى مناسباتِهِم ، ومن تلوثٍ لكلِ الحواسِ ، ومن ظواهرٍ تعتبر في عين الدراما أرقى كوميديا المفارقات .
الحاكم : ( بشغف ) إحكِ لي .. أريدُ أن أعرف .
محسن : فمثلًا .. تجد العمدة أو شيخ البلد رجلا جاهلا ، وقد يكونُ شابا سفيها وأحيانا مجرما ، وتجدَ الناسَ يقصدونَهُ للقضاءِ في مشاكلِهم وتضيعُ حقوقهم ، بينما يهجرون المكان الطبيعي لذلك وهي مكاتب المحامين ، إلَّا أن هؤلاءِ أيضا وكذلك ساحات المحاكمِ لا تخلو من مفارقات .
الحاكم : ( يزومُ مطأطئا رأسه في حركةِ رفعٍ وانخفاضٍ متقاربين ) امم ، امم ( يبدو أنه يفكر )
محسن : وكل دا كوم ووضع شروطٍ لإطعام الناسِ ، أو لقضاءِ مصالحهم بضرورةِ أخذ لقاحٍ أو وضع كمامةٍ كوم تاني ، ناهيك عن غلق المساجد وتحريف الصلاة ، ووضع الرجل غير المناسب في مفاصل الأعمال المهمة ( يصمت لحظةً ثم يتهيأُ لقولِ شئٍ مهم ) أما الذي يُذهلكَ بحقٍ ، هو ذلك الذي يقتل شعبَهُ ويُشردهُ ، ثم يطلب منه المعذرةَ لأنه مضطرٌ إلى فعلِ ذلك ، حتى لا تأتي أمريكا بنفسِها لتفعله ( يطلق ضحكتين ساخرتين ) .. إنه الاستخفافُ في أعلى صورِه .
الحاكم : الآن أصبحت صورة الحياة في عصركم شبه مكتملة في ذهني .. وصرتُ واثقا أن الحكم الفاطمي لا يزالُ فيكم .
محسن : ( منتبها انتباها شديدا كالمأخوذِ والمتذكرِ ) نعم ، فإيران اليوم ظاهرة ، لكن .. لكننا نعتقد أن مَن يحكمنا إنما هي أمريكا ومعها عموم الغربِ بسياسةِ الشيطانِ وحزبِه من ماسون وصهاينة .
الحاكم : لو أدخلتَ إيران هذه في المعادلة وقواعد اللعبة لتيقنت من ضرورةِ انضمامِها إلى ذلك الحزب ، فهي تعمل بتمكين منه .. لكن الذي تيقنت أنا منه اليوم .. أن كل ما يجري عندكم يتماشى مع الفكر الشيعي على مر العصور .
محسن : ( مبتهجا ومبتسمًا ) لقد أصبتَ كبد الحقيقةِ يا صديقي ولقد وضعتني على أعتابِها .. لكن للأسف لن استطيعَ مساعدتك ، فأنت كما ترى قد فشلتَ لأن ساسةَ عصرِنا قد تفوقوا عليك وأنت الحاكمُ بأمر شيطانِه .
الحاكم : نعم ، هم أيضا يحكمونَ بأمرِه ، لكنَّ الفارقَ أنه قد أسند إليهم أعمالًا أعظم وأهم في مخططِه ، ولذلك تواضعت أعمالي إلى جانبِ أعمالهم ( يقترب من محسن ) الآن وداعا يا صديقي لأعود بحسرتي مهزوما إلى حيث جئت .. فإنه قد وجب عليَّ الانتحار .
محسن : ( مندهشا ) انتحار ؟ .. ألم تعلم أنه محرمٌ شرعا ؟
الحاكم : ( نادما وبحسرةٍ ) أنا أصلًا منتحر من زمان .. منذ استجبتُ للشيطانِ ونفذتُ له سياستَهُ ( ثم بجديةٍ وصوتٍ مرتفعٍ ) وليعلمَ مَنْ يفعلُ فعلي أنه أيضًا ينتحر .. نعم .. ينتحر ، وسيكونُ مصيرُه هو نفس مصيري .
محسن : ( فاطنا لأمرٍ فينزع المسدس منه فيرتاح ويتنفس الصعداء ) لا يا صديقي فأنت رجلٌ جَنَى عليك التاريخُ ، وما أنت بجانبِ مجرمي عصرنا إلَّا أشبهَ بكومديانٍ أو مهرج .. فهم أحمقُ وأحقُ بالقتلِ منك .
الحاكم : أتعتقد أنني كنتُ سأنتحر بهذا المسدس ؟ .. لا يا عزيزي فأنا روح لا تصلح معها تلك الطلقات ، وإنما النارُ التي كنت فيها ، وجئتُ لأنقذُ نفسي منها لو أني فلحتُ في مهمتي ، إنما طالما فشلت فسأستدعيها الآن لتأخذني إلى حضنها أبد الآبِدِين ، ولأُنهي مدةَ بقائي هنا بنفسي قبل أن يأتي ميعادُها وذلك هو انتحاري وأنا روح ( يرفع رأسه للسماءِ متمتما بكلامٍ غير مسموع ) .
بينما الخليفةُ " الحاكمُ " على تلك الحالِ ، يبدو على " محسن " ملامحُ قلقٍ وتوترٍ ، حيثُ استشرافَ نفسه تطلُعًا وترقبا لانتظارِ شئٍ سوف يحدث لا يعرفُ بالضبطِ ماهيتَهُ .. وما هي إلَّا برهةٌ من زمنٍ مرت كأنها الساعاتُ إلَّا ونارٌ قد اخترقت سقفَ الغرفةٍ قد التهمتُه كاملًا ، ومِن حيثُ نزلت صعدت به مع استمرارِ صراخِه واستنجادِه الذي لا جدوى معه تماما.. كان المشهدُ شديدُ الوطأةِ على نفس محسن الذي أخذ منه الذهولُ كلَ مأخذٍ ، حتى انكفئ بوجهِه في كلتا يديه صارخًا بكلِ ما في عزمِه من قوةٍ .. غير أن المفاجأةَ التي تعرض لها " محسنُ " في غضونِ ذلك الحدثِ الجللِ وأنقذته ، أنه وجد نفسَهُ ـ وهو يصرخُ مستنجدًا ـ مُسَجَّىً على سريرِه مرتديا بجامةَ نومِه في غرفتِه التي لم تكن صاحبة الحدث ، كما لم يكن ميعادُ نومِه هو ذلك الذي زاره فيه الخليفةُ وإنما كان نومَ القيلولةِ من الظهيرةِ ، ليدرك في اللحظةِ أنه كان حلمًا ، بل كان بحقٍ كابوسًا تعرض له في نومِه ، وما هي إلَّا لحظاتٌ حتى دخلت عليه زوجتُه ومن خلفِها طفلتُه الصغيرةُ مسرعتانِ ليأخذهما في حضنِه ، ويَثلجُ بهما صدرُه حيثُ امتصا ما بهِ من وجلٍ .. لتنزلَ على هذا المشهدِ ..
ستارُ الختام .
تأليف
ياسر شلبي محمود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق