الجمعة، 27 مايو 2022

 .................

ماهر اللطيف

.............



العبرة
-----------------------------------------------------------------------------
كان يعاقر معتق النبيذ في خمارة الحي ويحتسي القدح وراء الآخر بنهم وشغف شديدين غير مهتم بأعين الناس التي كانت ترمقه وتتسمر فيه حتى نسيت كؤوسها وجلساتها ومجالسها واتخذت من " صابر" محور حديثها واهتمامها ومتابعتها وهو يهذي وحده من حين لآخر، ويخاطب الكرسي المقابل له (وهو شاغر من كل جالس) بصوت عال مع استنجاده بيديه واشاراتها تارة، ويقهقه طورا ويبكي مرة أخرى....
فقد جلب انتباه الحضور وافتك اهتمامهم وتوقهم لمعرفة مايجول في خاطر "هذا الشخص" وسبب وصوله إلى هذه الحالة خاصة عندما سمعوه يخاطب الكرسي الشاغر بصوت مرتفع:
- أجبني أرجوك ما الأهم بالنسبة إليك الحب أم الإهتمام؟ الشوق ام التفاهم؟ المشاعر والأحاسيس أم التواصل والتجاوب والتفاعل تفاعلا ابجابيا يضمن الاستمرار والديمومة؟ (وهذا يتأوه ألما فيجيبه بحرقة)
- لعن الله الحب والمحبين أيها الرفيق، فمعظم رواد هذا المكان ضحاياه إن لم أقل أسراه وتابعيه ( وآخر بصوت مرتفع وهو يقف ليراه صابر ورواد الخمارة)
- الحب أيها الزميل شعور نبيل وانساني، ضروري في الحياة، فنحن نحب انفسنا،الله، النبي، الدين،والدنيا ،ابناءنا شركاءنا في الحياة وغيرهم وهذا الحب لا إشكال فيه ولا عتب (فيصرخ آخر ليقطع كلامه وقد لعبت الخمرة بجسده وعقله حتى تراخى لسانه وتلعثم وباتت الحروف تخرج بصعوبة كبرى)
- حب ايه اللي إنت جاي تقول عليه، إنت عارف قبل معنى الحب ايه (والكل يضحك)، عن أي حب تتحدث يا هذا؟ لماذا تريد أن تسكرنا وتزيد من جراحنا (يشهق وهو ينظر يمنة ويسرة قبل أن يضع سبابته على فمه ليشير لصابر بأن يصمت) دعك من الحب يا حبيبي ولنقل "أ غدا ألقاك" (والحضور يقهقه حتى ينطق آخر)
- ها إنك نطقت الصواب ياهذا، فالحب اذا لم يقترن بالتفاهم والاهتمام والتواصل والتفاعل الايجابي والتنازل أحيانا عن بعض من المبادئ والقيم الثانوية حفاظا على ديمومته وتواصله لا يعتبر حبا، بل إنه يتحول إلى نقمة وعداء طال الزمن او قصر ( وآخر يصيح)
- الحب قول وفعل، توازن بين العقل والقلب وفعل لما يخدم مصلحة تلك المشاعر ونمائها....
ويتواصل الحوار من هنا وهناك والكل يدلي بدلوه حسبما يراه ويؤمن به ،وصابر هائم في عالم غير هذا العالم الواقعي إذ كان يتذكر كيف عرف "مريم" ذات مرة صدفة في مكان عام فتطورت من حينها علاقتهما حتى تطورت من مجرد إعجاب إلى اهتمام فحب ثم هيام وزواج في فترة وجيزة إلى أن امتلأ بيتهما بالابناء وصار البيت عامرا يسوده الود والحب طيلة سنوات وسنوات حتى تمدرس الأبناء وتضاعفت المصاريف مما حدا بالاب إلى العمل ليلا نهارا عساه يحقق الاكتفاء الذاتي لمملكته الصغرى ويوفر لها حاجياتها بعد أن استقر الرأي على أن تبقى الأم في المنزل لتهتم به ومن فيه.
و بمرور الأيام تقلص الاهتمام والتفاهم داخل الأسرة وقل تواجد الأب الذي كان يعمل معظم الوقت أو نائما ما إن يلج اسوار هذه المملكة، وشحت المشاعر والأحاسيس وذبل الحب والود حتى بين الأم وابنائها وبين الإخوة أحيانا، وهو ما ألهب فتيل المشاكل والعراقيل وفتح الأبواب أمام الشيطان ليتدخل ويقوم بمهامه على أكمل وجه، فتصحرت الحياة وقحل ربيع الأسرة وكثر السب والشتم والعراك حتى على أبسط الأشياء ،وبات المقام في هذا المكان جحيما لا يطاق إلى أن حل الطلاق والفراق وتهدمت المملكة بمن فيها واضحى الملك صعلوكا ومارقا عن القانون يتهرب ويهرب حتى لا يعيل ابناءه الذين تاهوا وسط ركام ما زرعت يداه وزوجته...
ومازال كذلك يسترجع الأيام الخوالي ورواد الخمارة يواصلون التفاعل مع سؤاله كل حسب وضعيته وحالته الآنية والاجتماعية وغيرها، حتى أعاد صابر الالتفات إلى الكرسي الشاغر المقابل وهو يضحك له ويقول بصوت مرتفع:
- ألم يحن وقت الراحة وإزالة اتربة جبال الهموم التي علقت بجسدينا؟ ألم يحن وقت السفر وترك الخلق للخالق؟ (ثم يستقيم واقفا وهو يطلب من النادل مده بالحساب ويشير إلى الكرسي بيده و يأمره بالوقوف لمرافقته)
ثم يغيب عن الانظار هنيهة وقد رجع الحضور إلى الاهتمام بمجالسهم ومعاقرتهم للخمرة حين يصيح فيهم أحدهم بأعلى صوته وهو مصفر الوجه وشاحبه:
- استغفرالله العظيم واتوب اليه، استغفر الله العظيم واتوب اليه، استغفر الله العظيم واتوب اليه. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.ألا فاشهدوا أني أعلن توبتي وطلاقي بالثلاثة لهذا الوكر وما فيه بعد ما شاهدته الآن (وأغلب السكارى مشدوهون ومشدودون لما يقوله هذا المخمور)، فقد تحادثت مع ذلك الشخص الذي كان يخاطب الكرسي واعلمني أنه خسر كل شيء جراء خسارته الفجئية للتفاهم والتواصل الجيد مع شريكة حياته التي كان يبادلها الهيام والذوبان في حبها، هدّم في لحظة ما بناه في سنوات ولم يتعظ أو يعتبر من دروس الايام وما اهدته من اشارات وجراح بسيطة عساه يستفيق ويستدرك ما يمكن استدراكه، لكنه واصل في غيّه وتجاهل تلك الاشارات حتى دفع الفاتورة غاليا بعد سنوات من الهناء والرخاء.... ،وما زلنا كذلك نتبادل أطراف الحديث حتى هرول مخاطبي وأسرع في اتجاه سكة الحديد ما إن سمع صوت القطار يعبر المكان، فارتمى على السكة حتى دهسته عجلات القطار لترديه اربا اربا، وهو ما افقدني السكر وارجع لي صوابي وعقلي وجعلني اهرب خوفا وريبة من هول المشهد وما تلاه من مظاهر حزن الناس وألمهم وحضور رجال الأمن والاسعاف وشروعهم في لم جسد المنتحر قطعة قطعة في أكياس بلاستيكية وكل الحضور في حالة هلع وخوف وذكر لله واستغفار وغيرها، وهو ما جعلني أيضا اجري إلى هنا لشرب قليل من الماء واعلان توبتي علنا عساني اكون سببا في توبة غيري فينقلب اثمي إلى ثواب قد ينفعني غدا.
-----------------------------------------------------------------------------
بقلم :ماهر اللطيف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق