....................
د / محمد البكرى
.....................
!!!!!!!!!!! ( رواية .. يوميات كاهن فى الأرياف ) !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
::::::::::::::::: (( الفصل الخامس )) ::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
مدينة بنها تعج بزحام غير مسبوق من اللافتات التى تحمل أسماء المرشحين لانتخابات مجلس الشعب . شىء غريب يسرى بين الجماهير وقد أعطى رئيس الدولة قبل أسابيع الحق لآخرين لينافسوه على منصب رئيس الجمهورية ، فتحركت المعارضة لتحصد بغيتها من الوليمة فى المجلس الجديد ، يراودهم أمل فى استغلال ضجر الجماهير ، ليحطموا كل رموز الحكم على أرض مصر ، إن تمكنوا من تغيير الدستور بتكتلهم فى المجلس القادم .
كلهم يعلمون أنهم لن يأتوا بجديد ، ستستمر معاناة الناس ، والأحوال ستزداد سوءًا ، ولكنه بريق السلطة وكراسى الحكم ، والرغبة فى تحقيق المصالح للنفس ، وللأتباع والمقربين ولسان حالهم يقول :
: ” الفساد موجود .. موجود .. ويصل إلى نخاع الناس ، حكام ومحكومين ، فلماذا لا نشارك فى لعبة الفساد لنحصل على جزء من الكعكة ، التى أصبحت وقفًا على من لبسوا عباءة الحزب الحاكم ، سنربى بأموال الفساد أبناءنا .. على الأقى هم أولى من أولاد الأفاعي ”.
.....................................................................................................................................
كان عضو المجلس المحلى الشهير وأسرته ، يتوارثون كرسى المجلس عن الأب منذ انقلاب يوليو العسكرى عام (1952) . تولى الأب إلقاء بذور الفساد هنا وهناك ، وعلى أبنائه الآن والجيل الثالث أيضا ، الذى يعدونه بحماس محموم ، تولى رعاية أشجار الفساد التى ضربت جذورها بعمق ، لتنمو أكثر وتزدهر ، ولترفرف أوراق الفقر والجوع والمرض على وادى النيل ، واذا أزفت الآزفة ، فالأموال التى نُهبت من الناس والبنوك ، يجلس عليها أخاهم الأصغر ، الذى هرب بها إلى أوربا فى انتظار الهروب الكبير !
...................................................................................................................................
سيارة مرسيدس سوداء ، يخفى زجاجها ”الفاميه” ما يدور داخلها . كان السيد البيومى يجلس بالكرسى الخلفى ، بكرشه الذى يلقيه أمامه ، ووجهه الأسود الكالح ، وشعره الذى طار كله تقريباَ ، ولم يتبق منه سوى بضع شعيرات جهة اليسار ، يسحبها جميعها َإلى يمين الرأس ، ويلصقها بالمثبتات فى محاولة ساذجة لإخفاء صلعته . والحقيقة أن ما يفعله كان يفضح أكثر ما يحاول أن يداريه ويشعره بالخجل ، لا لشىء إلا لنقص فى عقله ، يشعره بعقدة نقص من صلع لا يستحى منه الآخرون ، وقد صار ظاهرة عامة بين المصريين ، تماما كفيروسات الكبد والفشل الكلوى وأمراض السرطان .
إلى جواره جلس الأستاذ حمودة الجوهرى ، مرشح الإخوان المسلمين ذو الوجه المربع الأبيض ، والجبهة البارزة التى تعلو عينين لامعتين براقتين . فجأة انفجر صوت اهتز له الجوهرى . حاول أن يدارى اضطرابه . مسح جبهته بيده . تنحنح بصوت خفيض قبل أن يرى الجالس فى الكرسى الأمامى إلى جوار السائق ، وهو يمد يده بكأس ”شمبانيا" إلى ”السيد بك" ، الذى التقط كأسه وارتشف منه رشفة ، ليبادر بالحديث الى الجوهرى بصوته الأخن الأغن ، وبلغته التى فرض حرف الياء نفسه عليها ، لاغيًا بسطوته حرفى اللام والراء ، ليحل محلهما فى كل الكلمات ، حتى إن شباب الدائرة كانوا حين يرونه ، يتضاحكون فيما بينهم وهم يتندرون عليه قائلين :
: "يا يهوى.. ياخيابى" ، قاصدين كلمتى ”يالهوى .. يا خرابى" ، اللتين يجتمع فيهما حرفى اللام والراء ، ويتندرون بخطابه الذى يرددونه فيما بينهم ، ذلك الخطاب الذى ألقاه فى إحدى المناسبات وقال فيه:
: "يا جماعة .. إنتوا عايفين الطييق الميصوف إيى موازى ييسكة الحديد مين إيى يصفه؟.. إيعبد يياه هو إيى يصفه".
وبالطبع هذا الجزء من الخطاب باللغة العربية كما نعرفها يُنطق هكذا :
"يا جماعة إنتوا عارفيين الطريق المرصوف الموازى للسكة الحديد مين اللى رصفه؟ العبد لله هو اللى رصفه”.
كانوا ينطقونها بلسانه ساخرين ، ويغرقون فى الضحك .
.........................................................................................................................................
التفت السيد البيومى يحدث الجوهرى قائلاً :
: طبعا إنت ما بتشربش .
: ربنا تاب علينا والحمد الله !
: اسمع يا جوهرى ، زى ما انت عارف ، أنا نازل الانتخابات عن الفئات وأنت عن العمال . مصالحنا واحدة ، صحيح أنا مرشح الحزب لكن على بلاطة وبصراحة ، أنا لا يهمنى الحزب ولا رئيس الحزب ولا البلد كلها .. مصالحى يا جوهرى .. الكرسى عشان الدنيا تمشى .. مصالحى ومصالحكم !
حاول الجوهرى الكلام فقاطعه ”السيد بك":
: اسمع واستفيد الأول .. ممكن يكون دا آخر لقاء بيننا ، وحتى نهاية الانتخابات ، إوعى تقولى “الإسلام هو الحل” لأزعل منك .. المصلحة هى الحل .. طبعًا أنا كلفت عددًا من الأتباع المستترين بالنزول ضدى فى الانتخابات كمرشحين مستقلين ، والمعارضة الحقيقية وانت أدرى طبعا ملهاش وزن يُذكر .. كل اللى يهمنى ياجوهرى انه ما ينزلش حد منكم عن الفئات ، وهى دى قسمة العدل .. أنا كرسى .. وأنت كرسى . أنا مش هقوم بعمل أى دعاية أو لافتات لنفسى ، ومش هصرف مليم واحدا ، كفاية اللى أخذه منى الباشا الكبير ، عشان يسمح لى بتمثيل الحزب . يمكن انت ما تعرفش أن أخويا الكبير عايز يبقى وزير ، والانتخابات دى هى أول درجات سلم الوزارة ، إنت عارف البلد داخلة على أحداث خطيرة الفترة اللى جاية ، وين عارف يمكن تكون الأيام اللى احنا عايشينها دى ، هى آخر أيام النظام القائم الآن ، وربنا يسهل ويكون لنا لقمة كبيرة مع النظام الجديد ، ويا عالم ممكن النطة الجديدة توصلنا لفوق .. فوق أوى عند السحاب !
....................................................................................................................................
تنهدد الجوهرى ليقولها باختصار :
: توعدنى ما يكنش فيه أى غدر يا سيد بك !
: أنا كلمتى واحدة .. سيف عارف سكتة .. لا يحيد يمين ولا شمال .
: لا مؤاخذة يا سيد بك نتكلم بصراحة وأنت سيد العارفين . والدك الله يرحمه كانت هوايته الغدر .. لعبة عاش طول عمره يحبها ، كانت بتحسسه بوجوده وبلذة غريبة أغرته بالإدمان .
: من غير غلط يا جوهرى الله يرحم الجميع ، الحاج الله يرحمه كانت له دماغه ، وأخويا الكبير طبعا ما لوش عهد ولا كلمة تتمسك عليه ، وده واجبة ودوره ، لأنه سياسى أقدم منى ، وطموحه من غير حدود ، ممكن تقول إلى حد كرسى الرئاسة لو سنحت الفرصة . لكن أنا حاجة ثانية خالص . أنا يهمنى الكرسى والحصانة ، واسأل اللى أكبر منك .. يقولك أنا خدمتكم أد إيه ، من تحت الطرابيزة .
: مفهوم يا سيد بك .. وده رأى الجماعة كلها ، وعشان كدا يا باشا اطمئن ، كرسى الفئات ما حدش هبقرب منه .. ولكن !
: لكن إيه يا جوهرى ؟
: العزبة التى اشتراها عمى جنب عزبة الباشا !
: عارف يا جوهرى .. ما لها ؟
: فيها خط كهرباء ضغط عالى ، بيشق العزبة نصفين .
: فهمت .. هحوله خارج حدود العزبة ، خليه يمشى فوق أراضى الفلاحين الغلابة ، ودا يرفع ثمن العزبة أكثر من مليون جنيه ، ودى هديتى لكم ، أخويا الكبير مش هيتأخر على طلب صغير ذى ده ، ومش كدا وبس . همدلك الطريق المرصوف وأوصله لحدود العزبة ، عشان سيارات النقل توصل لمزارع الرومى والنعام والفراخ ، التى عمك مديها كل اهتمامه هذه الأيام دى .
: دا جميل لن تنساه الجماعة مدى الحياة ، ودا عشمنا فيك . لكن الحقيقة يا سيد بك الداخلية وأمن الدولة و.................
: يا جوهرى أنا مش مُلزم أوضح لك التفاصيل الدقيقة لشغلنا . مدير الأمن ، والمحافظ ، وأمن الدولة . الكبير بتاعنا بيديهم أوامر ، مش بيقدم إلتماسات .
- أشكرك سيد بك !!!
- الكلام أخدنا يا جوهرى حدود عزبتى أولها من هنا . هندخل مع بعض ، وأنت هتستنى معانا لحد ما يحل المسا . ولما الليل يدخل تقدر تخرج ، ولا من شاف ولا من درى .
...................................................................................................................................
اقتربت السيارة من الفيلا التي يجرى فيها سيد بك مقابلاته . سارع السائق بالنزول ليفتح الباب للجوهرى ، بينما حارس سيد بك يفتح له الباب الآخر بيد وبالأخرى كان يحمل ما تبقى من زجاجة الشمبانيا . أعطى سيد بك أوامره أن يحمل عنه ”الموبايل" الخاص به وكذلك الخاص بالجوهرى ، والتفت إلى الجوهرى يسأله ..
: هل معك شىء آخر غير الموبيل يا جوهرى؟
: ليه يا سيد بك؟
من الآخر أعط الحارس كل ما تحمله .. قلم حبر أو جاف ، سلسلة مفاتيح ، ولاعة سجاير ، أنا عايزك بهدومك فقط. ، ولو بإيدى كنت خليتك ملط .
ابتسم الجوهرى وهو يعطى كل ما معه للحارس والتفت يقول :
: واضح اننا هناخد جولة بين الشجر يا سيد بك ؟
صمت السيد ولم يرد ، وامتدت يده تسحب يد الجوهرى ، وخلال دقائق ابتلعتهما الحديقة ..
: اسمع يا جوهرى .. طبعا إنت فاهم !
: طبعًا فاهم يا سيد بك .. ما كنتش أظن أنك بتشك أنك مراقب ، وأن هناك الى بيحاول يتجسس عليك بأجهزة أو غيره !
......................................................................................................................................
: الاحتياط واجب يا جوهرى وأنا ناوى أكلفك بعملية صغيرة .
: خير يا باشا ؟
: أبدًا .. ولد مسبب لنا صداع .. لسانه طويل .. عامل مؤلف حضرته .. مقالات للمجلات والصحف ، تحقيقات صحفية .. طبع مجموعة من الكتب . ولد كحيان وجيبه فاضى ، فالح بس يلسّن علينا ، وعايزين نخلص منه . اسمه محمد .. عنده صيدلية .. البيه أساسًا صيدلى ، وهوايته يكتب ويقرفنا .. وأخيرًا أسس جماعة من المثقفين وسمًاها ”جماعة المختارين" وانضم ليه عدد من الشباب اللى بيشكل ثقل فى أوساطه .
التفت إليه الجوهرى وهو يقول :
: بسيطة يا باشا.. إعمل له قضية . إضربه من خلال عمله . أدوية تابعة لجدول المخدرات ، ونقفل الصيدلية ، ونشرده هو وعياله لو كانت له أسرة .
: لا.. لا.. الولد مش سهل زى ما انت فاكر .. شكاك وذكى وله علاقاته المتشعبة .. هو ضد الحزب صحيح ، لكنه مش ضد النظام ، وأسرته فى حد ذاتها مشكلة . عائلة البيه لها تأثير .. عدد ذى النمل .. ومناصب فى كل أجهزة الدولة الحساسة .. وغير الحساسة .. وفلوسهم أكثر من عددهم ، يعنى مالوش حل . مش هنطوله إلا بالطريقة الثانية . حاولنا معه بالطريقة اللى انت عرضتها ، والقضية رسمناها وخططنا لها على مدار عامين كاملين .. كل العمال بالصيدلية كانوا من رجالنا ، حتى السكرتيرة اللى بيثق بها وتعد له كل شىء ، والدكتورة الصيدلانية اللى بتشتغل معاه ، والدكتورة البيطرية المسؤولة عن قسم الأدوية البيطرية بالصيدلية .. كلهم كانوا تحت السيطرة ، حتى أصدقاؤه المقربون الذين يزورونه بالصيدلية ، كانوا تابعين لنا . والمقدم /مدير مكتب المخدرات وضباطه كان عندهم كل المعلومات والهدايا اللازمة لشحذ الهمم ، وفى الآخر كله طلع "فشنك" !
...................................................................................................................................
كان الجوهرى يفهم من الأول أن القرار قد أخذ ، ويحتاج فقط إلى من ينفذه ، ولكنه يحاور ليطلب المزيد فى المقابل .
: طلباتك أوامر يا سيد بك .
: أنا متصور حادث سيارة ويكون هناك من يتابع بعده ، ليتأكد أن الإصابة قاتلة ، وزيادة فى الاحتياط تبلغنى قبلها عشان أرتب مع المستشفى وسيارة الإسعاف ، عشان نتأكد احنا من ناحيتنا .. إذا نفد من الحادثة ، نكمل فى سيارة الإسعاف ، وإن خرج منها حىّ ، نكمل فى المستشفى .
: يا سيد بك.. ولد صايع يدخل له الصيدلية ويطلب منه أدوية محظورة من الجدول ، ولما يرفض يخبطه بسنجة أو سيف . مشاجرة وضرب أفضى إلى موت ، سبع سنين سجن ويخرج من نصف المدة. ألف من يتمنى أنه يخدم .
- أنا عايز نتيجة يا جوهرى !!!!!!!!
- اطمن يا باشا .
- هتتكلف كام العملية ؟
- ألف جنية للى هيقوم بالتنفيذ وألف غيرها للمحامى .
- أنا راصد ربع مليون جنيه ، وحاسب إنت بطريقتك .
- العملية كلها هدية لسعادتك . احنا مشتاقين نخدم فى العملية الكبيرة . إمته يا باشا .. إحنا بنعد الدقائق والساعات والأيام . كفاية كده يا باشا .. عايزين نركب !
- قصدك إيه يا جوهرى؟ وضح كلامك !
- والله يا سيد بك لا يصلح لحكم مصر الآن إلا ”البيومية".. كفاية يا باشا .. مبارك حكم فترة طويلة جداَ ، وابنه جمال هيحكم فترة أطول .. ومش هينفع معاهم يا باشا إلا الطريقة الثانية اللى رشحتها للصيدلى إياه .
- اسمع يا جوهرى .. الكلام ده له ناسه، ومش من حقى وحقك الخوض فيه .. لا تتعجل الأمور .. ومن عارف يمكن الخطة إترسمت .. ووعدى لك أنك هتكون وتنظيمك أحد المنفذين .
- قبل ما أنسى يا سيد بك عندنا شوية شباب .. خدامينك يا باشا ، وكنا ..
- عددهم كام .. وبتطلب لهم إيه ؟
- عشرين شاب يا باشا .. ولادك حصلوا على الثانوية العامة السنة دى ، وعشمنا نوزعهم على الكليات العسكرية .. حربية .. طيران .. بحرية .. شرطة .. والبركة فى سعادتك .
- جرالك إيه يا جوهرى؟ هو كل عين قصادها صباع .. إنتم طماعين جداً يا أخى !
هتكت ضحكاتهم العالية ستر السكون ، وهما يستديران للعودة إلى قصر سيد بك ، وقد تراءت لهم أضواؤه الخافتة على البعد .
_______________________________________________________ د / محمد البكرى
رقم الإيداع ( 24485 / 2006 )
( الإسكندرية - ميامى - شارع 45 برج الهنا )
( تمت يوم 23 / 3 / 2006م )
شكرا على النشر
ردحذف