......................
راقصة الفلامينكو
الجزء الأول
مسعد ما بك؟ ما لي أراك منهكا، مهموماً بعد عودتك من اسبانيا؟
قال: ماذا أحدثك يا كمال، وماذا أقول لك، أنا غائب عن الدنيا. مشرد الذهن، تائه لا أعرف كيف أجمع ذاتي من جديد....
قلت خيراً ماذا هناك؟ أنا لم ارك بمثل هذه الحالة يوماً. طمني ما بك؟
قال: غادرت مطار دمشق إلى مدريد بأمان الله، لحضور المؤتمر الخاص بشؤون الطيران المدني...وكنت قد دونت محاضرتي جيدا لهذا المؤتمر...
توقفنا في مطار روما، لننتقل إلى الطائرة الإسبانية ايبيريا لنتابع الرحلة إلى مدريد...استرعى انتباهي في المطار صبية سحرتني على الفور ...قلت في ذاتي لم أكن أتوقع يوما أن أرى جمالاً مثل هذا الجمال...شدت انتباهي، جذبتني، بهرتني، أنا الذي لا اعير هذا الأمر أهمية تذكر.
نادت إذاعة المطار تدعو المسافرين إلى مدريد التوجه إلى البوابة رقم 10...
اتجهت للبوابة المذكورة وأنا أنظر الى فاتنتي مودعا متحسرا كيف سأغادر كل هذا السحر والجمال، وتمنيت لو ينسوني هنا في روما......
رقص قلبي فرحا، عندما شاهدت الصبية جاءت مع المتوجهين إلى بوابة المغادرين معنا...
كنت أسرق النظر إليها، وقلت بصمتي ما أروعك يا روما... ظننتها إيطالية، سمارها حنطي مشرقي، وعيناها خضراوان رائعتان، يشعان بالذكاء، وقامتها الممشوقة الطويلة، آية في الجمال الخلقي...شعرها أسود طويل وتسريحته بسيطة تربطه على ظهرها كذيل الحصان، ولم تكن تستخدم أي نوع من أنواع المساحيق التي تخفي عيوبا في البشرة، تعشمت بأنني سأتمتع في صحبتها وقت الرحلة وأتمتع بهذا الجمال الخارق......
جلس المسافرون كل في مقعده، وكنت بعيدا عنها، وقلت في ذاتي بماذا تحلم يا هذا، ساعات قليلة ستنتهي الرحلة وكل واحد منا، سيذهب إلى مقصده، وينتهي وقت العرض هذا، وطبعا هي لا تعرفني ولا يهمها أمري، أصلا هي لم تلاحظ اعجابي وولهي المجنون فيها...
تناسيتها واخذت اتصفح مجلة، لكنني فوجئت عندما رأيتها تتقدم في ممر الطائرة، قاصدة غرفة المضيفات...
أنا كنت جالسا في قسم المدخنين في الخلف، عندما عادت كانت تحمل بيدها قدح قهوة...كنت أنظر إليها كمن ينظر إلى آية من آيات الجمال المتجسد التي رسمها الخالق، ولم يرسم بجمالها بعد، أو لا يريد أن يرسم مثلها..
توقفت بجانبي، تحمل معها قدح قهوة وقالت أتسمح أن تقدم لي سيجارة، هناك في مقعدي غير مسموح التدخين...
كان في رأسي عقل وطار، وماذا تتصور حدث معي، تلعثمت، وتأتأت، وتسارعت نبضات قلبي...ولم تخرج الكلمات من حلقي،
وقبل أن أجيب، كانت قد جلست بجانبي، لكن قبل أن أسحب علبة سجائري، وقفت ثانية، وذهبت إلى غرفة المضيفات، وعادت تحمل قدح قهوة ثاني وقدمته لي... وقالت لا أحب احتساء القهوة بدون تدخين السجائر...
اشعلت لها السيجارة قالت باللغة الإنكليزية شكرا لك. أنا اسمي ديانا من الأندلس...
قلت لها أنا مسعد من سورية...
أسعدها إني أتكلم الإسبانية لغتها. فقالت نحن أولاد عم ألسنا من أحفاد طارق بن زياد... ومحمد الفاتح؟
بعد أن استعدت انفاسي تدريجيا، وعاد صوتي طبيعيا، قلت لها: الآن فهمت سر هذا الجمال الخارق الذي منحك إياه رب العالمين...جمال أسباني ممزوج بالجمال العربي...
ضحكنا، وتبادلنا الأحاديث عن الأندلس وقصر الحمرا، واشبيليا، واحاديث مختلفة متنوعة، كنت أنظر في عينيها وأبحر فيهما ولا أرتوي من التمتع في النظر إليهما، وكم تمنيت ألا تنتهي الرحلة، وتدوم إلى الأبد وأنا غارق مشدوه في هذا الجمال الساحر. وخاصة بعدما عرفتها مثقفة واعية متفهمة ما يدور في العالم...
اخبرتني إنها مديرة فرقة رقص الفلامينكو، مركزها في مدينة سلمنكا في غرب البلاد على الحدود البرتغالية لكنها دائما تتنقل في العالم هي وفرتها ... وأنا اخبرتها عن سبب حضوري إلى إسبانيا...
عندما ضيفتها السيجارة الثانية، قالت: شكرا انتظر، ذهبت وأحضرت حقيبة يدها من المكان حيث كانت جالسة وقالت: تفضل من سجائري الإسبانية، هذا تبغ أسود أفضله على السجائر الأمريكية. التبغ الأشقر...
عندما حطت الطائرة، في مدريد، قلت في ذاتي يا خسارة، لقد انتهت الرحلة، وانتهى العرض الجميل، يا ليته يستمر إلى الأبد... بعدما تجاوزنا معاملات المطار المعتادة، قلت لها مودعاً كم اسعدتني رفقتك يا أجمل الناس...
قالت تعال معي إذا أحببت، سيارتي هنا سأوصلك إلى مدريد، وأنا سأتابع إلى سلمنكا. صرفت سيارة المؤتمر التي تنتظرني، وركبت بجانب الجمال كل الجمال...وحسدت حالي على حالي...
سألتها: لماذا لا تباتين هذه الليلة في مدريد وصباحا تذهبين إلى مقصدك، سلمنكا بعيدة بحاجة إلى أربع أو خمس ساعات على الأقل...
قالت أتمنى ذلك، لكن عندي مواعيد كثيرة في الغد.
قلت بصمتي: سأتجاسر وأعرض عليها دعوتي وليكن ما يكن. قلت لها: أنا حاجز في فندق المدينة وسأحجز لك غرفة على حسابي الخاص ونسهر هذه الليلة سوية وغدا صباحا ربنا يرافقك في رحلتك...
أقنعتها، تعشينا في مطعم الفندق واحتسينا من نبيذ اسبانيا الأبيض المشهور عالميا، وخرجنا نتسكع في شوارع مدريد، المدينة التي لا تنام.... مدينة يعرفها الليل، أكثر مما يعرفها النهار ...
وصلنا إلى مكان يبدو ديانا تعرفه جيدا، نادي الفلامنكو، استقبلها أصحاب النادي بترحاب شديد، ولم يكونوا ينادونها بغير لقب (البرنسيسة) الأميرة..
مدوا لنا طاولة مميزة. طعام شهي ومشروبات فاخرة، وكنا نراقب راقصي الفلامنكو على المسرح .جاء مدير النادي وطلب راجيا من البرنسيسة أن تقدم لهم رقصة من رقصاتها ...ارتدت لباس الرقص الخاص، ورافقها شاب في الأداء وكانت خبطات قدمي ديانا القوية بكعب الحذاء تضيف على اللحن لحنا ايقاعيا يهز القلوب...وترقص معه كل الأحاسيس الملتهبة... بعدها عدنا للفندق، وتابعنا السهر في غرفتي...
في الصباح لم أجدها بجانبي، قالوا في الفندق بأنها غادرت وتركت لك هذه الرسالة.
قالت: احبك، ولم تكتب أي شيء آخر...
أصابني فراقها الماُ اخترق فؤادي... كنت أذهب إلى المؤتمر
الذي استمر خمسة أيام. محاضرات قيمة، كنت اسجلها بالصوت حتى أعود لها لاحقا، لم أكن قادرا أن استوعب حرفا مما يقال... اصلا لم أكن أعي ماذا يقول المحاضرون، ولما جاء دوري، قدمت محاضرتي، وأحمد الله إنني كنت قد حضرتها ودونتها في دمشق قبل حضوري إلى المؤتمر وإلا كانت فاجعة لأنني كنت غير قادرا أن أكتب حرفا واحدا في مدريد...
في نهاية المؤتمر قررت جازما اللحاق بها إلى سلمنكا.
الى اللقاء في الجزء الثاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق