السبت، 2 أكتوبر 2021

 ..................

ياسر شلبي محمود

................



عودةٌ .. أم سرابٌ
الجزء الأول ـ العودةُ مِن منظورِ الفكرِ .
مِن أهمِ المواضيعِ الشائكةِ التي هي في حاجةٍ إلى تصحيحِ المفاهيمِ ، إنما هي عودةُ عيسى بنُ مريمَ عليه السلامُ إلى الأرضِ بعد أن رُفِعَ إلى السماءِ ، ونحن إذ ننفي بقوةٍ عودتَهُ ونزولَهُ ، فإنَّا لسنا بذلك ننفي قدرةَ اللهِ على إنزالِه وعلى عودتِه إلى الأرضِ مرةً أخرى سواءً كان حيًا أو متوفيًا ، فإنه عز وجل قادرٌ على كلِ شئٍ ، ولا يُعجزُهُ ـ سبحانَهُ ـ شئٌ في الأرضِ ولا في السماءِ .. ولا كذلك ننفيهِ رغبةً منَّا وأمنيةً وكأنما بيننا وبينَ تلك العودةِ عداوةً ، وإنما ننفيهِ علمًا وحقًا وفقَ رؤيتِنا العلميةِ في ذلك ، وكم انتظرتُ مِنْ قبلُ عودتَه كما انتظرتُ أيضًا المهدي ، وكم كنتُ أتمنى أن يكونَ نزولُه حقًا ليُصلح بهِ اللهُ خللَ الموازينِ في كلِ شئٍ .. وإنما كان حُلمي هو حُلمَ الجوعانِ برغيفِ خبزٍ ، كما يقولُ المثلُ المصري : " الجوعان يحلمُ برغيفِ عيْش " ، والعَيْشُ في الدارجةِ المصريةِ هو الخبز .
وفي الحقيقةِ ، نحنُ نعذرُ بشدةٍ مَن يؤمنونَ بنزولِ عيسى عليه السلام ، لِما فيهِ ـ على خلافِ المهدي ـ مِن ذكرٍ في كتابِ اللهِ ولو على سبيلِ المشابهةِ لا الإحكامِ ، إلَّا أننا نرى في الإيمانِ بنزولِه فتنةً كبيرةً وضلالًا قد وقعَ فيهِ العلماءُ قبل العامةُ و الدهماءُ ، وأنها قد أصدعت صدعًا كبيرًا في الجدارِ الحافظِ للأمةِ ولإسلامِها ، بينما لا يترتبُ على نفي نزولِه ضررٌ ولا ذنبٌ ، إذ ليس الاعتقادُ بنزولِ عيسى آخرَ الزمانِ أصلٌ مِن أصولِ الإيمانِ ، إذ ينحصرُ الإيمانُ في الإيمانِ باللهِ واليومِ الأخرِ وملائكةِ اللهِ وكتبِه ورُسُلِهِ ، وليس مِن بعد ذلك شئٌ يدخلُ في أصولِ الإيمانِ إلَّا كان رادًا وليسَ مِنَ الحقِ في شئ .
وتبدأُ قصةُ نزولِ عيسى عليه السلام وعودتُه ، إلى قوى الشيطانِ التي تغلبتْ عليه بإرادةٍ مِنَ اللهِ تعالى بعد أن كادوا يقتلونَه لولا أن رفعه اللهُ إليه بعد أن توفاهُ ، حيثُ أذاعوا خبرَ قيامتِه من بين الموتى وصعودَهُ إلى أبيهِ الربِّ في زعمِهِم الباطلِ ، وأنه حتمًا سيعودُ آخرَ الزمانِ ، ليحكمَ بهمُ العالَمَ أجمعَ ، وكذلك ليكونَ له في كلِ أمةٍ ـ في مخططِ الشيطانِ ـ دوْرًا وعملًا هو نفسه ذاتُ الدوْرِ والعملِ ، وهو ـ في مفهومِ كلِ أمةٍ ـ هزيمةُ الأممِ الأخرى وحكمُ العالَمَ بها، حتى يصيرَ حُلمًا لكلِ أمةٍ ذاتِ كتابٍ .. ومِنَ الغريبِ أن هذه الكذبةَ التي صُنعتْ منها فتنةٌ ، شأنها شأنٌ كلَ كذبةٍ لا سِيقانَ لها ولا عُمُدٍ راسخةً يحملانها ، غيرَ أنها سرعانُ ما ترسخُ وهي هشةٌ في عقولِ السفهاءِ ، لِما تجدُ تلكمُ الكذبةُ مِن عملٍ دؤوبٍ وآلةٍ إعلاميةٍ قويةٍ ورهيبةٍ مِن قوى الشيطانِ ، في حينِ لا تجدَ مِن قوى الخيرِ سوى غفلةً وخمولًا وسذاجةً ، حيثُ لم يكن مِن داعمٍ لتلك الفكرةِ ( فكرة قيامِ عيسى من بين الموتى ) ، سوى شهادة امرأةٍ تُدعى " مريم المجدُليةِ " مِن غيرِ نصٍ في الإنجيلِ أوالتوراةِ كان ينبئُ صراحةً بقيامتِه ثم عودتِه ، مما يعني أن فكرةَ حياةَ عيسى وعودتَه آخرَ الزمانِ ، إنما هي في الأساسِ فكرةٌ خاطئةٌ وباطلةٌ في الفكرِ المسيحي ، وانتقلتْ بدورِها إلى سائرِ الأممِ ذاتَ الكتُبِ .
وإنما يرجعُ انتقالُ هذه الفكرةِ إلى أمتِنا إلى " عبد اللهِ بن سبأ " اليهودي ، رجل القوى الخفيةِ الذي اعتنقَ الإسلامَ نفاقًا في زمنِ الخليفةِ " عثمان بن عفان " ، والذي كان رأسَ التشيعِ فيها كما ذكرتْ كتبُ التاريخِ ، إذ انتقلَ بينَ الأمصارِ ليجمعَ من حولِه الحاقدينَ وأصحابَ النفوسِ الرديئةِ ، حيثُ نشط ليبث بهم في الأمةِ فكرتينِ أساسيتين من أهدافِ القوى الخفيةِ وهما :
الأولى ـ دعوته إلى اعتقادِ رجعةِ النبي محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم ، وكان يقولُ : عجبًا ممن يزعم أن عيسى سيرجع ويكذب بأن محمدًا سيرجع ، وقد قال اللهُ تعالى { إِنَّ اْلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اْلْقُرْآنَ لَرَادُكَ إِلَى مَعَادٍ } .
والثانيةِ ـ دعوته إلى اعتقادِ أن لكلِ نبي وصيًا ، وعلي وصي لمحمدٍ ومحمد خاتم الأنبياءِ وعلي خاتم الأوصياء ، ومَن أظلمُ ممن يمنع وصية رسولِ اللهِ .
تلكما الدعوتانِ ، إنما هما أيديلوجيةَ الشيطانِ الدجالِ ورفيقَه إبليس اللعينَ لتدميرِ أمةِ خاتَمَ الأنبياءِ والرُسُلِ ، كما دمَّرا مِن قبلُ أمتيّ عيسي وموسى ، إلَّا أن الدعوةَ الأولى لم يكن الهدفُ منها هو الاعتقادُ برجعةِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ ، وإنما كانتْ فقط الوسيلةُ بخبثٍ ودهاءٍ شديدينِ لترسيخِ فكرةِ الرجعةِ لعيسى عليه السلام ، كما هو مبينُ في " الخيطِ الرفيعِ " ، في كيفيةِ عملِ قوى الشيطانِ ، إذ يتفاوضونَ على هدفينِ أحدهما متقدمٌ ورئيسٌ في عمليةِ التفاوضِ ، والآخرَ متأخرٌ وغيرُ رئيسٍ على مائدةِ المفاوضاتِ ، لتتم وفقَ ذلك الموائمةُ السياسيةُ ويقعُ القبولُ للهدفِ الثانوي الذي هو في عينِ فكرِ المؤامرةِ هدفٌ رئيسٌ .. ولقد كان ابنُ سبأٍ منفذًا جيدًا لخطةِ الشيطانِ في ذكرِه لرجعةِ عيسى ـ وهي لا وجودَ لها في الأمةِ حينئذٍ ـ من غيرِ المطالبةِ بها ، لتقذفُ هي تلقائيةً وترسخُ في الذاكرةِ الإسلاميةِ ، مع العملِ على تكوينِ خلايا تؤمنُ بها وترددُها ، بالإضافةِ إلى وضعِ الأحاديثِ في فتراتِ التمكينِ السياسي للشيعةِ حيثُ ممالأتِهم في العهدي الأموي والعباسي ، وهكذا عاشتْ الفكرةُ وترسختْ .
ونحنُ إذ نبحثُ عودةَ المسيحِ في المنظورِ الفكري والأيدولوجي ، فإنا نطرحُ سؤالًا إذ ليس له بدٌ من طرحٍ :
ـ لماذا عيسى وليس محمدًا ؟
نعم ، فما هي الحيثيةُ مِن نزولِ عيسى تحديدًا ، ونحنُ نتكلمُ عن منزِلٍ مقتدرٍ يعلمُ الأبدَ قبل بدءِ الأزلِ ، بحيث تجري المجرياتُ وفقَ علمِه الأزلي بما يجب أن يكون إن وجبَ شئٌ أن يكون ، حتى لا يُقالُ لأنه " حيٌ " لم يمتْ ، أو يُقالُ لأن أمته ادعتْ أنه ابنُ اللهِ سبحانَهُ عما يُشركون .. فالأمةُ محلُ الإنزالِ إنما هي أمةُ " أحمد " ، فإن كان الهدفُ مِن العودةِ إصلاحها والأخذُ بيدِها ، فإن المنطقَ يقضي بأن نبيها أولى بها ، وهي أولى أيضًا بنبيها . ألم يكن اللهُ قادرًا أن يُحيي نبيَّهُ محمدًا وأن يكونَ عمرُهُ هو عمرَ أمتِه ؟ ، ألم يكن قادرًا وفقَ تقديرِه وعلمِه الأزليينِ أن يرفعَ نبيَّهُ محمدًا بدلًا من نبيِّهِ عيسى ليكون هو العائدُ لأمتِه ولا يكونُ ذلك ناقضًا لعقيدةِ ختمِ النبوةِ ؟ .. إن العقلَ يجيبُ بأولويةِ محمدٍ بإصلاحِ أمتِه آخرَ زمانِها إن كان ليس بد من مصلحٍ بدرجةِ نبي .. وإن كانت الإجابةُ لأن أمتَه ادعتْ أنه ابنُ اللهِ ، وأن نزولَه هو الأولى لبيانِ خطئِهم ، فإن الشططَ والضلالَ يكونا قد انطوتْ عليهما تلكمُ الإجابةُ لا ريب ، لأنها لو صحتْ لصحَّ كذلك عودةُ " العزير " إلى أمةِ اليهودِ لأنهم ادعوا أيضًا أن العزيرَ ابنُ اللهِ ـ سبحانَه ـ هذا من ناحيةٍ ، ولأن الأممَ إن هي ضلَّتْ فلا تصححُ لها عقيدتُها إلًّا من خلالِ كتابِها أو الكتابِ الذي أُنزلَ من بعدِها وهذا من ناحيةٍ أخرى ، ومن بعد ذلك ـ إن كان الكتابُ هو الخاتمُ كالقرآنِ الكريمِ ـ فإنَ الأممَ الضالةَ تُتركُ مؤاخذتُها ليومِ الحسابِ ، حيثُ الفصلُ الأعظمُ فيما كانوا فيه يختلفون ، ولا تحتاجُ هي في الدنيا إلى إرسالٍ جديدٍ بهذا الشكلِ غير المألوفِ إذ ينزلُ من السماءِ وليس من بينهم .. وإن كان من حيثياتِ نزولِ عيسى عليه السلامُ في الفرضِ الجدلي من لدُنَّا ، أن الدجالَ قد حاك لعيسى عليه السلام مكيدةَ قتلِه ، وإنه قد وجبَ لذلك نزولَ عيسى مصادفًا لأجَلِ الدجالِ فيقتلُه بيديهِ نكالًا له ، فإن الردَ أيضًا من لدنا لسد كل الذرائعِ ، بأن الشيطانَ الإنسي ( الدجالَ ) ورفيقَ دربِه إبليس قد حاكا بالفعلِ مكيدةَ قتلِ الكثيرِ من أنبياءِ بني إسرائيلَ بأيدي أقوامِهم ، حتى في عينِ حياةِ عيسى نفسه قد قتلوا نبي اللهِ " زكريا " وابنَه " يحي " ، بينما لم يتمكنوا من قتلِ نبي اللهِ عيسى حيثُ رفعه اللهُ إليه بعد أن توفاهُ دونَ قتل ، مما يجعل الأولويةَ بالحقِ في هذا الثأرِ للمقتولينَ دون مَنْ لم يُقتل !؟ .. ثم ما قيمةُ هذا العملِ في الدنيا إن كانتْ هناك آخرةٌ يتمُ فيها الفصلُ ، وما قيمةُ هذانِ الشيطانانِ عند اللهِ ليرسلَ للإنسي منهما نبيًا بعد ختمِ النبوةِ ليقتله ولديهِ قدرته المطلقةُ ، وعنده أيضًا ملائكتَه ، وبخاصةٍ أنه لم يقتله حقًا وإنما شُبِّهَ لهم .؟
إن البحثَ الفكري والأيديولوجي لهذهِ القضيةِ إنما يلزمُ أيضًا البحثَ في المقدرةِ والتمكينِ ، مع العلمِ بأن اللهَ تعالى يترك الأمورَ تجري وفقَ أعمالِ البشرِ لتكون تحت المسائلةِ والحساب . إذ كيف لهذا العالَمِ أن يعلمَ أن هذا هو عيسى ابنُ مريمَ من غيرِ آيةٍ تدلُ عليه وهو لم ينزل بصفتِه نبيًا في عقيدةِ المؤمنينَ بنزولِه ، ثم كيف له أن يستطيعَ فعلَ وهو غير نبي ما عجزَ عن فعلِه وهو نبي حتى تكاثرتْ عليه قوى الشرِ مِن غيرِ خروجٍ عن إرادةِ اللهِ ليقضيَ أمرًا كان مفعولًا .. ولما كانت قوى الشرِ في عصرِنا هذا هي الأقوى من غيرِ خروجٍ عن مشيئةِ اللهِ وإرادتِه ، فإن تمكنها منه سيظلُ هو الأقوى مع قرينةِ العلمِ بترك اللهِ الأمورَ على علاتِها لأفعالِ الخلقِ حتى تكونُ تحتَ المسئؤليةِ والمؤاخذةِ يوم الحسابِ ، مما ينفي بالضرورةِ الفائدةَ من نزولِه إلَّا أن يقولُ قائلٌ : أن اللهَ سيمكنه ، ليكونَ قولُه ذاكَ متناقضًا مع عقيدةِ كونِه ليس نبيًا عند النزولِ ، ويكونُ الأمرُ كله عبثًا في عبثٍ ، إذ لو اعتمدنا نفي صفةِ النبوةِ عنه فلا يكون هناك تمكينٌ ، في حينِ اعتمادنِا لإثباتِ نبوتِه وتمكينه يكون خروجًا عن عقيدةِ ختم النبوةِ والدخولِ في متاهاتِ الانزلاقِ إلى الكفر والعياذُ باللهِ ، فضلًا عن جهلِ القائلينَ بعدمِ نزولِه نبيًا ، لأن صفةَ النبوةِ لا تزولُ عن أنبياءِ اللهِ قط ، وإن زالتْ هي عن عيسى عليه السلامُ عند نزولِه ، فإن ذلك يُشكلُ إساءَةً إليه وما كان اللهُ ليسئَ إلى أنبيائهِ ورُسُلِهِ وحاشاه ، ولعل القولُ أنه لا ينزلُ رسولًا أدعى إلى الصوابِ مِنَ القولِ بأنه لا ينزلُ نبيًا في هذه الحالةِ ، إلَّا أن صفةَ النبوةِ التي ستظلُ لصيقةً به تآبى إلَّا أن تكونَ دومًا وأبدًا متعارضةً مع عقيدةِ ختم النبوةِ ، وعندئذٍ تذهبُ الفكرةُ بكاملِها أدراجَ الرياحِ ، لأن العقيدةَ في محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم ثابتةٌ في كونِه خاتَمَ الأنبياءِ في النصِ وليس خاتم الرُسُلِ ، لأن كلَ رسولٍ هو نبيٌ بالضرورةِ وليس كلُ نبيٍ رسولًا .
إن نزولَ عيسى عليه السلام ، ليس بالأمرِ المُعجِزِ على اللهِ عز وجل وإنما هو عليه هينٌ ، إلَّا أن نزولَه في المنظورِ الفكري ليس له بابٌ مفتوحٌ قط ، حتى نطلَ منه بأملٍ على تلكمُ القضيةِ التي بانتْ منها العودةُ ، لتلبسَ ثوبَ السرابِ في ذلك المنظورِ الفكري والعقلي ، والذي لا يمكنُ بحالٍ تعارضُه مع الحقيقةِ من منظورِ العلمِ والقرآنِ الكريم .
ياسر شلبي محمود
كاتب ومفكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق