...............
نهاد عبد جودة
...................
(ألثعلب )
قصة قصيرة
بقلم نهاد عبد جودة
يحاصرني القلق وسوء الظن , لقد فقدت راحة البال ودب اليأس في قلبي لكثرة مراجعاتي لذلك المكتب اللعين , مكتب استاذ سليم , سليم شخص مثير , يمتلك قدرة هائلة على تحويل كل الاحاديث والقضايا لصالحه بلسان محترف الكذب والتلفيق , ثلاثة اشهر مرت وهو يغرد في اذني الحان كلماته السمجة ومواويل الوعود الزائفة بعد ان استلم مني ثلاثمائة الف دينار مقابل انجاز وكالة لسيارتي بسبب هجرة مالكها الى خارج الوطن , اخبرني اكثر من مرة على ان المعاملة انتهت وعندما اذهب لاستلامها اجد الاعذار جاهزة .
احد الايام فقدت قدرتي على الصبر , حاصرته بزاوية حرجة عندما حدثته بلهجة حادة , اما المعاملة وأما اعادة المبلغ ولا خيارات اخرى , اكتشفت انه اجبن من دجاجة لقد تلاشت صورته السابقة من ذاكرتي عندما كان كالديك ينفش ريشات جناحيه على المساكين من زبائن المكتب , كان خير الحلول عنده ان يرسلني الى من هو صاحب الباع الطولى في مجال انجاز المعاملات الصعبة , سلمني رسالة الى شريكه في العمل السيد كمال صاحب مكتب يشار الية بالإعجاب والتقدير , يبدو انهما شريكان في كل شيء من صيغة الرسالة التي قرأتها عدة مرات حتى كدت ان احفظها عن ظهر قلب , حملت الرسالة وذهبت الى مكتب استاذ كمال رغم اني غير متفائل من هذه المحاولة , وجدته يجلس خلف مكتبه الفخم , ملامح وجهه غير مريحة , عيناه كعيني قط شرس , يتلمظ بلسانه كالأفعى اثناء الحديث , تجلس على يمينه فتاة رائعة الجمال , شعرها الاشقر كسلاسل ذهبية متناثرة على اكتافها , وجدت في وجهها الرقة والطيبة , نظراتها كانت ودودة وأحاديثها رقيقة وهادئة مما منحت شخصيتها صفة التميز والبريق في عيون الزبائن , على يساره تجلس امرأة تتمتع بكل مواصفات العاهرات , تدور العلكة في فمها بطريقة مبتذلة , تطلق ضحكات هستيرية دون اسباب معقولة , مما تثير الاشمئزاز في قلوب المتواجدين , رحب بي بكلمات يطغي عليها التملق والرياء , اهلا استاذ لقد كلمني زميلي استاذ سليم عنك , اتمنى ان تطمئن وان تثق بي ثم لعق شفته السوداء وأكمل حديثه قائلا انها مسألة وقت , نظراته كانت غير مطمئنة رغم محاولاته ان يكون اكثر لطفا , يتصنع الطيبة بمشقة وابتسامته الصفراء يفضحها الكذب , قلت له : صديقك اغرقني بالمواعيد الكاذبة خلال ثلاثة اشهر فكم شهر اضافي ترقد اوراقي برفوف مكتبك استاذ كمال , قال : يجب ان تعرف ان مشكلتك كبيرة لا يمكن حلها بالطرق الاعتيادية , على العموم سأعمل المستحيل من اجلك , كنت متأكدا واجزم انه كاذب ودجال ولكن ما الحيلة ليس امامي سوى الانتظار , امتلأ المكتب بالزبائن وكل منهم يفور غضبا , بين الحين والحين تحدث مشاجرة تصل حد الاشتباك بالأيدي , في هذه الاثناء دخل المكتب رجل كبير السن يتبعه شاب ضخم الجثة مفتول العضلات حتى جلسا بقربي , كان الرجل يتململ ضجرا , دنى مني وهو يهمس بإذني قائلا اود ان انصحك ان لا ترتبط مع هذا الرجل الفاسق بأية معاملة , يبدو انك حديث عهد بهذا الدجال , ابتسمت ثم قلت له نصيحتك متأخرة سيدي الكريم , لقد ابتلعوا نقودي وانتهت الحكاية , بعد ان اطلق زفرة عميقة ساخنة قال : قبل خمسة اشهر اوعدني بانجاز معاملة الحصول على امر بيع العقار الذي املكه لأنه كان تحت الحجز بقرار خاص من الدولة , لقد خدعني بكلماته وأعطيته مليون دينار , كان يستهين بي وأحيانا يجعلني هدف لسخريته الجارحة , احد الايام خدعني بكتاب موافقة على البيع وعندما ذهبت للتأكد من صحة صدوره من المحافظة اتضح ان الكتاب مزور , تمكنت بصعوبة من الفرار , وجدت ان كل الطرق مغلقة معه , هذا اليوم جاء معي ولدي ثم اشار لذلك الشاب العملاق , ولدي من ابطال كمال الاجسام , لقد منعته مرارا من المجيء معي لأنه عصبي المزاج , جاء هذا اليوم لكي يضع حدا لهذه المهزلة , لكي يتعامل معه بالطريقة الوحيدة التي تناسبه , كلمات هذا الرجل اجتثت اي بارقة امل عندي , كان في نيتي الانصراف ولكنني رغبت بالبقاء لكي استمع الى قصص الاخرين , يبدو ان الاجواء تنذر بالتصعيد ولرغبتي بتقمص كل الشخصيات والاستماع الى لباقة احاديثهم رغم انني اعرف ان استاذ كمال هو الفائز الوحيد لما يمتاز به من صوت مرعب كأنه قرع الطبول , عندما يتحدث مع شخص يعتقد الناس انه في شجار محتدم , هذه الصفة الذميمة منحته القدرة على ازعاج الخصوم وبالأخير إسكاتهم , تعالت صيحات وسباب وكلمات نابية بين استاذ كمال واحد الزبائن بعدها التحم الرجلان بعراك شديد بالأيدي , تمكنا بعد جهود على احتواء الموقف وإنهاء النزاع , بعد لحظات التقاط انفاس نهض الشاب العملاق حتى وقف بإزاء المكتب قائلا : اسمع استاذ كمال لقد تحملت الكثير , لقد اهنت ابي وتسببت له بحالة مرضية ونفسية مؤلمة , جئتك اليوم محذرا وكذلك انذرك للمرة الاخيرة , عليك ان تحدد موعدا نهائي لإكمال المعاملة او اعادة المبلغ وإلا سأهشم رأسك والقي بجسدك من اعلى هذه البناية , هل فهمت ما اقول ؟ , اجابه استاذ كمال بِاسلوب حاول ان يجعله حميمي : سالبي طلبك خلال سبعة ايام , ارجو ان لا تغضب فالأمر لا يستحق العنف , كل شيء يتم خلال الحوار , قال الشاب حسنا سنلتقي بعد سبعة ايام ثم انصرف هو ووالده من المكتب , تكررت زياراتي للمكتب حتى حفظت عدد سلالم العمارة وممراتها ووجوه ساكنيها دون ان احقق اي نتيجة , احد الايام جئت الى المكتب فوجدته فارغا إلا السكرتيرة الفاتنة , اخبرتني ان كمال سافر الى شمال الوطن للسياحة مع هذه المرأة التي يدعي انها زوجته , قلت : كيف يدعي ما ذا تقصدين ؟ , قالت : هي بالحقيقة عشيقته ولا زالت بذمة زوجها السابق الذي يطاردها من اجل استعادة ولده الصغير منها , عقد كمال الزواج عليها من قبل رجل مشعوذ يدعي انه رجل دين مخول , جعل المكتب شقة مفروشة لها , لقد هجر زوجته وأطفالة من اجلها , اثناء ساعات العمل تجلس بجانبه تداعبه وتغازله دون حياء امام زوار المكتب , قلت لها : كيف تسمحين لنفسك بالبقاء في هذا المكان الملوث بالفسق , قالت : لقد اشتغلت منذ فترة قصيرة حاول خلالها التحرش بي ولكنني اهنته وقررت ترك المكتب ولكنه اعتذر وتعهد بعدم مضايقتي مجددا ومنذ تلك الحادثة اصبح يخشى من اعادة المحاولة , حاليا ابحث عن عمل يناسبني في مكان اكثر احتراما وأمنا .
استمرت بيننا احاديث كثيرة حول المكتب وأسراره ونشاطات استاذ كمال الخارجة على القانون والشخصيات التي تتهاون معه ممن يشغلون مراكز حساسة في الدولة , منحتني ثقة عمياء حيث كشفت عن كل ما يتعلق باستاذ كمال , استمعت الى قصص مذهلة اعتقدت انها من الخيال , قلت : ان حياته الخاصة لا تعنيني المهم عندي كيف اتمكن من استعادة حقي , قالت ادعو لك من قلبي , قبل ان اغادر قالت : سأكون عونا لك في استعادة حقك , قلت : لا تشغلين بالك الامر ليس بهذه المبالغة اما المبلغ فهو بسيط ولا يستحق المجازفة ولكن الذي يؤلمني كيف يستغفلني هذا المعتوه وشريكة سليم الكذاب , قالت : لا بأس الحق حق , لقد امتلأ قلبي حقدا عليه على استاذ كمال , سألجأ الى معاقبته بعمل يؤذيه جزاءا له على نذالته , غدا تعال الى المكتب طالما هو غير موجود لكي اعطيك اوراق معاملتك , ارجو ان تهتم بما سأقوله لك , سنحاربه بنفس الاسلوب الذي يسير عليه , ابتسمت ثم قلت لها : اتمنى ان لا يحملنا الانتقام الى الانزلاق في الخطأ , قالت : معاذ الله استاذ , الامر ببساطة هو مطالبته بملف اوراق المعاملة , عندما يخبرك انه انجزها طالبه بالإطلاع عليها وان رفض هدده باللجوء الى القضاء حينها ستجده طوع يدك , انا اعرفه تماما يرتعش جبنا وينهار رعبا عندما يهدده احدا بالقانون لأنه يطفو على بحار النكرات والأعمال القبيحة والخارجة على القانون , سيلجأ الى استرضاءك بأية وسيلة , لن نخسر شيئا هي محاولة وأتمنى ان لا ترفض هذه المحاولة دعنا نجربها , قلت : سأجتهد على تنفيذها , في اليوم الثاني زرت المكتب , كنت احمل لها البشرى , لقد وجدت لها عملا كسكرتيرة في مختبر احد الاصدقاء , كادت ان تطير من الفرح , ناولتني الملف وتحدثنا عن كل حيثيات الخطة , قررت ترك العمل حين عودته من السفر اما القيام بتنفيذ الخطة عندما تترك العمل خشية انتباه استاذ كمال للأمر , بعد مرور يوم اتصلت بي وأخبرتني بمجيء كمال من السفر , عندما وصلت الى باب العمارة سمعت ضجيج المكتب يصل الى الشارع , صراع يومي لا ينتهي , وجدت المكتب يضج بالكثير من اصحاب المعاملات , القيت التحية , كان السيد كمال منتشيا وبجانبه تلك العاهرة , ردت التحية وحاجبيها يغمزان بحركات تثير الانتباه مما اربكت خطواتي , ضحكاتها غير المتحفظة وطريقة تدخين السيكارة والعلكة التي تمضغها بشكل يثير استفزاز المتواجدين , جلست قرب رجل ضعيف البنية اصفر الوجه , التفت الي قائلا ( الطيور على اشكالها تقع ) اليس كذلك قلت له بلى صدقت , بعد ان تأكدت ان السكرتيرة قد غادرت المكتب بدأت اشحذ همتي وأهيأ قدراتي الذاتية وكأنني اترقب الخوض في امتحان عسير , قلت : سيد كمال ان كنت تدعي انك انجزت المعاملة اود رؤيتها والتأكد من ذلك وسأذهب بها الى المحكمة لكي اتأكد من انها غير مزورة , ربما انت لا تعلم مدى علاقاتي برجال الدولة , نظر الي بدهشة لا يتوقع ان اتحدث اليه بهذه الصيغة غير المعهودة مني , قال : ارجوك اهدأ , غدا ستجد كل شيء جاهز , قلت حسنا غدا سنلتقي , قبل مغادرة المكتب دخل الرجل العجوز ولكنه لم يصطحب ولده هذه المرة , كان متشحا بالسواد وقد اطلق لحية بيضاء اكتسحت رقعة وجهه الذابل تماما , سألته ما بك يا شيخ ما الذي يوجعك , قال لقد مات ولدي , قلت له هل تقصد ولدك الرياضي , اجهش بالبكاء ولاذ بالصمت لكي يمسح سيول الدمع , نعم ولدي الذي جاء معي قبل عشرة ايام , لقد سقط من سكلة عمال البناء ومات فورا بعد ان اعياه نزف الدم الداخلي , كانت رؤيته تثير العطف والشفقة , التفت نحوي وكأنه تذكر شيئا مهما , موت ولدي منح كمال الراحة وكأنه ازاح ثقلا عن اكتافه , كان مرعوبا من ولدي اما الان فقد تنكر لكل التزاماته وعاد يعاملني بمذلة وعدم اهتمام كالسابق , لقد قال لي وبصريح العبارة يوم امس ( اعلى ما بخيلك اركبه ) , لم اجد من الكلمات إلا المواساة له , تحكمت بي مشاعر حزن عميق من اجله , غادرت المكتب وأنا اجد في نفسي رغبة جامحة للبكاء .
اليوم الثاني رحب بي استاذ كمال بطريقة غير معهودة , كنت ادرك تماما معنى هذا الاهتمام , قال لي بنبرة ذليلة استاذ لم اعثر على الاوراق , لم اترك مكان إلا وبحثت فيه , لا تحزن هي مجموعة مستمسكات مستنسخة غير مهمة , قلت ادعيت انك انجزتها ثم تعود لكي تقول انها اختفت , انت تهزأ بمن , لا تتحاذق معي وإلا سأذيقك المرارة , الملف يحتوي عل مستمسكاتي الاصولية , سألجأ غدا الى المحكمة , سأرغمك على الرضوخ للحق وإعادة المبلغ وكذلك العثور على اوراقي المهمة , سأتهمك بسرقة هذه الاوراق وكذلك بتهمة التحايل ليس معي فقط بل مع الكثيرين وهم جميعا لا يبخلون بالمجيء للمحكمة وإدلاء شهاداتهم بذلك , قال : ارجوك ان الموضوع لا يستحق هذا الغضب , تدخلت تلك العاهرة , مسكت ذراعي وهي تقول : حبيبي استاذ ارجوك ان تهدأ , الحزن لا يناسب وجهك الوسيم ( وداعتك متسوه ) ثم اطلقت من منخريها زفرة دخان مصحوبة برائحة عفنة نفذت الى انفي , نحن ندعوك هذه الليلة في المكتب سنناقش الموضوع بروية , سأهدأ اعصابك وسأجعلك تنسى يوم ولادتك , قلت لها شكرا دعوتك لا تلزمني , الامر لا يحتاج الى سهرة ممتعة بقدر ما يحتاج الى موقف منصف لإعادة الحق الى نصابه , اسمع يا كمال سأعود غدا وان لم اجد الاوراق والنقود سأجعل ايامك كلياليك الظلماء , سأجعلك تندم على اليوم الذي تجرأت به وسرقت نقودي وأخفيت اوراقي انت وحليف الشؤم سليم الكذاب , قال : ارجوك اجلس واهدأ لكي نحل الخلاف ونسوي الموضوع الان , سأعيد اليك المبلغ ولكن بالتقسيط على ستة وجبات كل عشرة ايام ابتداء من نهاية هذا الشهر , قلت : حسنا والأوراق , قال سأبذل قصارى جهدي بالبحث عنها , حسنا سنلتقي الى اللقاء , بعد مرور عشرة ايام جئت الى المكتب , كان الصمت يعم العمارة كلها , ذهلت عندما وجدت المكتب مغلقا , بحثت في ارجاء العمارة لم اعثر على اثر , صادفني عند النزول على السلالم حارس العمارة , سألته عن المكتب وعن سبب اغلاقه , اجهش بالبكاء ثم قال لي بحزن : لقد قُتل المسكين استاذ كمال , قلت له مسكين ومن الذي قتله , قال احد الايام عندما كان بصحبة زوجته اعترضهما رجل باطل يدعي انه زوجها السابق وإنها لازالت على ذمته , اطلق الرصاص على استاذ كمال وارداه قتيلا , اجهش بالبكاء وهو يقول كان المسكين استاذ كمال رقيق القلب يتابع احوال الفقراء ويعطف على المحتاجين وينصف المظلومين , قلت له هل ان استاذ كمال من اقاربك , قال نعم , قلت له انت ايضا مسكين , البقاء في حياتك اخي وعلى الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق