.............
رعد الإمارة
..........
ذات الضفيرة السوداء /ج٦
وانا مستلقٍ على أريكتي المفضلة بعد إنصراف الضيفتان، سَمعتُ جدتي تُكيل المدحْ للعريس القادم، كانتْ عمتي تَنصتُ فحسبْ وتهزُّ برأسها، وهي تواصل قَص قطعة قماش بين يديها، كانتْ ترفع رأسها مابين لحظة واخرى، تحدّقُ فيَ، ثم تشيحُ برأسها وتومئ لجدتي وكأنها تقول، نعم أفهمك يا أمي. طَلبتْ عمتي مني أن أساعدها في تحضير الغداء، أعترتني الدهشة وأنا أتبعها للمطبخ، تلك كانتْ أولُّ مرة تطلبُ مني فيها ذلك، قالتْ وهي تجذبني من يدي وتنظر من فوق كتفي إلى غرفة الضيوف :
_خُذْ هذه النقود وهذه الورقة، مدوّنْ هنا أن صديقتك تريد كتاباً في فن الطبخ وآخر عن تعليم الرسم، واضح أنها تعرف كيف تستفيد من الكتب التي تقتنيها، هل فهمتْ؟ لم تطلب روايات تُضّيع فيها وقتها مثلكْ. قاطعتها بسرعة ووضعتُ يدي على فمها، كانتْ تعرف كيف تجعلني أصاب بالذعر، إنفلَتتْ مني وأخذتْ تقهقه عالياً، تناهى لأسماعنا صوتُ سعال جدتي المعتادْ، وَضعتْ أصبعها على فمها وطَلبتْ مني الصمت، رحنا نحدّقُ
ببعضنا مثل المجانين، ونَحنُ نتنَفسُ من أنوفنا، ثم سرعان ما انطلقتْ ضحكاتنا تدوّي في المطبخ أكثر من السابق. ما أن تَمددتُ على الأريكة بعد أن ملأتُ بطني بالطعام حتى وجدتُ عيناي تنغلقان تدريجياً، ولم ينفع سعال جدتي في إبقائي يقظاً، كان النعاس أقوى من سعالها وأقوى حتى من رواية اجاثا كريستي الجديدة والتي َهوتْ من بين أصابعي وإستقرّتْ على السجادة، لا أعرف كم مضى من الوقت، ذات الكوابيس تعود مجدداً، متقطعة ومتشابكة، خيّلَ لي بأن عمتي أمسكتْ بي وأنا أحاولُ الهبوطَ على سَطح الجيران، ثم وجدتُ نفسي مرة أخرى أجوس خلال الغرف العديدة لبيت الجيران وأنا أبحث جاهداً عن غرفة ذات الضفيرة، تباً، ماهذا؟ كل الغرف متشابهة، هوى الَمفكُّ من بين أصابعي وأصدرَ صوتاً مزعجاً حين مسَّ البلاط، يالي من أحمق، أوه، من يصفعني، جدتي! لا هذه عمتي، أتسعتْ عيناي رعباً وأنا أحدّقُ في الوجه الانثوي المدوّرْ، إنها فعلاً عمتي، كان العرق يتَصبّبُ من جبيني، قالتْ وهي َتمسحُ جبهتي بباطن كفٍها :
_مسكين، كنت تحلم،-وَضعتْ فمها على إذني - هذا كلّه بسبب رواياتك البوليسية. إنتابني الرعب، هل سَمعتْ جدتي ماقالته عمتي، رحتُ أنظر صوبها، آه، شَعرتُ بالراحة، كانتْ جدتي تغطُّ بنومٍ عَميق وقد تصاعدَ شخيرها. بَكرّتُ صباح اليوم التالي بعد أن توَسَطتْ لي عمتي، كان عليّ جَلبُ كُتبْ ذاتَ الضفائر، قالتْ عمتي وهي تناول جدتي شراب السعال الخاص بها :
_دعيه يذهب يا أمي، سيكون حريصاً وعاقلاً، أوصيته بأن يجلبَ لي بعض الحاجيات، كذلك كُتبْ بنت جيراننا، سيكون لطيفاً منه لو أحضرها لها. هزّتْ جدتي رأسها، أشعلتْ سيجارتها الصباحية الثانية، قالتْ مع أول سعلة :
_طيّبْ سأتركه يذهبْ، من أجل الجيران فقط، تعرفين، سنصبحُ عائلة. رحتُ أحدّق في عمتي التي تَورّدَ وجهها، نهَضتْ دون أن تنطق بحرف، لكنها قبل أن تختفي من الغرفة طَلبتْ مني اللحاق بها، راحتْ تربّتْ على حافة السرير، أشارتْ لي بالجلوس، تَخلّلَ شعري أصابعها، جذبته فجأة وقالتْ :
_ما رأيك لو تَزوجتُ هنا؟ في هذا البيت، هل ستوافق أمي؟ والعريس المنتظر هل سيقبل بهذا الوضع -سمعتها تتنّهدْ - لا أريد مفارقة هذا البيت، هل تفهم حبيبي؟ . استدرتُ برأسي إليها، وَضعتْ المشط جانباً، كانتْ عيناها مغرورقتان بالدمع، رحتُ أفركُ يديها، طَلبتُ منها الكفَْ عن البكاء، قلت :
_الله، كلامك من أجمل ماسمعتْ، جدتي تُحبك جداً، أكيدْ ستوافق. أرتدّتْ عمتي برأسها للخلف وقد شَعّتْ ملامحها بالرضا، قلتْ :
_عمة؟ أنتِ جميلة جداً وجذابة، سيكون العريس غبياً اذا لم يوافق، أنا واثق أن الأمور ستسير بصورة طيبة. أتسَعتْ عينيّ عمتي من الدهشة، جَذبتْ رأسي، ثم راحتْ تُرجّل شعري وهي تقول :
_تأخرنا، ستغضب الجدة، أنتظر لحظة كدتُ أنتهي، الآن تبدو وسيماً، ما أشدُّ جمالك حبيبي. احمرَّ وجهي وأنا أسمع كلام عمتي التي كانت تصّبهُ في أذني صباً، قبلَ أن أغادر غرفتها، هَرولتْ خلفي وأخذتْ تَمسحُ وجهي بعطرٍ اخاّذْ فاحَ شذاهُ في الجو. كان باب الجيران مغلقاً، حاولتُ إفتعال ضجة فرحتُ أطرقُ بحذائي أسفلت الشارع، حتى إني تنَحنحتُ غير مرة، لكن لا فائدة فالباب الموصد ابى الأنفراج ولو قليلاً. كان العثور على كتابيّ ذات الضفيرة من أسهل مايكون،فأغلبُ المكتبات كانتْ تعرضهُ خلفَ واجهاتها الزجاحية البراّقة، دفعتُ الثمن لكني كالعادة قبل أن أغادر المكتبة الكبيرة ابتعتُ رواية أخرى لكن هذه المرة كانتْ مصرية واسمها ميرامار، ياله من اسم جميل جَذبَ إنتباهي، حتى إني كنت أصطدمُ ببعض العابرين وأنا أتصفّحُ أوراقه الصفراء. (يتبع للجزء الأخير)
بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق