الجمعة، 22 يوليو 2022

 ..................

عصام الدين محمد أحمد

..................



براءة
لم تشرق الشمس يعد.
ركبا السيارة إلى المحكمة.
المبنى الذي يكرهه من الأعماق.
أُريقت كرامته على درجات سلمه، صعدا إلى الدور الثالث.
الحضور قليلون لا يتعدون الآحاد؛فالوقت ما زال مبكرًا.
أمارات الفزع ترسم محياه.
يدور في الطرقة المتاخمة للقاعة كأنه يمسح البلاط بناظريه باحثًا عن عملة نادرة وقعت من جيبه:
بصراحة أنا أكثر منه توترًا وريبة في المشهد كله.
لو صدر حكم بسجني، فلن أعود معه.
سيسلمني باليد إلى السجان.
لم أرد إغضابه ولذلك وافقت على الحضور معه، فتنقلاتي محدودة وفي وضح النهار ولن تُتاح الفرص للقبض عليَّ حال الإدانة.
بيد صفوت الأب ملف ضخم به عشرات الأوراق.
لم يقلب مختارالابن المحتويات.
لم يهدأ صفوت إلا حينما لمح المحامي قادمًا؛بش وجهه وانفرجت أساريره.
تضطرد زيادة الحضور مع مرور الوقت.
يلصق الحاجب الرول بجوار باب القاعة على الحائط.
تنفلت الأوراق من اللاصق، فتتساقط على الأرض.
يجرب صفوت إعادة لصقها، تبوء محاولاته بالفشل، لم يكترث للأمر.
يلتف العمال حول المحامي، ينفق عشرات الجنيهات عليهم.
صوت الحاجب يزلزل مفاصل مختار.
يهرولون داخلين.
يتلو الحاجب الرول.
الرئيس لا يخط حرفًا إلا إثر الرجوع إلى العضوين الآخرين.
عرض القضية ومناقشتها لا يستهلك أكثر من عشر دقائق.
شكل القضاة مريح ما عدا الجالس على يمين الرئيس، واضح عليه الامتعاض من أي حوار يجريه الرئيس.
ها هو الأستاذ يستعد، يقف، يأخذ من مختار بطاقة الرقم القومي، يدنو من المنصة، يتوارى خلفه، ينده عليه الحاجب، يودع القاضي بطاقته، يستهل المرافعة:
حاضر عن المتهم وأحمل كارنيه تحت رقم... أطلب من عدالة المحكمة إعادة الوصف والقيد ليتفق وما ورد في أوراق التحقيق و..
يقاطعه القاضي: وبناء عليه.
يجيبه الأستاذ: الحكم برفض الاستئناف وتأييد حكم أول درجة.
يسحب الحارس مختار ليجلس فوق دكة الصف الأخير.
أكثر من ثلاثين متهمًا متراصون كقوالب الطوب.
ها هو وحيد ينتظر مصيره المجهول، غرر به صفوت ليركله في السجن.
يلمح أمارات السعادة على وجه الحارس المبتهج لحجز الجميع.
انفلت صفوت مخلفًا مختارًا في سلة التأرجح والقلق.
تلطخه الاتهامات:
متظاهر لم يصحبه متظاهرون آخرون.
السماء تمطر أصواتًا:
لا تتحرك يمينًا ويسارًا، فالمكان محاط بمسلات الوخز والإيلام.
حياة مختار متعلقة بكلمة تخرج من فم هذا القابع في الوسط.
الساعة الواحدة ظهرًا، ويرفع الحاجب الجلسة انتظارًا للأحكام.
تفرغ القاعة إلا من قاطني الدكة الأخيرة، تُغلق عليهم الأبواب من الخارج.
يتكاثر الجنود كالنبت الفجائي.
تجمر مختار نيران الحيرة.
يدلف صفوت إلى القاعة مستغلا عراك الحارس مع أحد المحامين.
يزامله الجلوس، يدعي الانشغال بتصفح هاتفه، تمسح نظراته الأبواب شبه الموصدة.
لا يمكن لمختار الانفلات فالعسكر في كل سنتيمتر.
أينما تُولي وجهك فثمة عسكر.
يصرح صفوت:
تدبرت أمر تهريبك من المبنى إذا ساءت الأمور.
يرد عليه:
ماذا بعد الهرب سوى الهرب؟
تنغّصه الحروف:
لماذا نساق إليهم كالمنومين مغناطيسيًا؟
يصيح متململًا:
اسأل نفسك؟
يمزح صفوت:
سألتها ولم تجب!
يعقب جادًا:
كيف خططت لتهريبي؟
يقطع الاسترسال هامسًا:
ساعتها يعين الله.
أخيرًا يظهر الأستاذ .
يتراجع صفوت يكظم غيظه، يجلس متعبًا، يرتل:
لا تشغل البال فالحكم - إن شاء الله - براءة.
يتناقص رتل المحبوسين، يخرج صابر السكرتير، يشير له الأستاذ فؤاد، يرد قائلًا:
لا تخرب بيتي، لا أعرف شيئًا.
بوادر الألم تلد على سحنات الأستاذ.
يتشاغل بالدردشة مع الحراس.
يخرج من القاعة.
حاق بمختار الانكسار:
"أيها القابع بالقاعة، دقائق وتصعد سيارة الترحيلات، يلقون بك خلف القضبان، لم تستطع النوم، ستهاجمك الكوابيس:
يجري، البزات الرسمية منثورة في كل الأرجاء، يفلت من أحدهم فيلاحقه الآخر.
يعدو أكثر، تسح السماء جندًا، لا يمكنه الهرب، تهرسه البيادات.
ينتفض انتفاضة الذبيح الأخيرة.
لماذا دفعوني للتلصص ؟
تجسست ونقلت الأخبار والمحصلة قرار اتهام .
لم أنقل إلا الأخبار التي يعرفونها.
أتعتقد أن هذا التبرير سينطلي على الأذهان؟
ألم أرفض النزول؟
أبي هو من أصر على تنفيذ الأوامر، وقال لي حرفيًا:
لا تدلهم على شيء يضر الناس.
يمكنك نقل معلومات،يدركون- يقينيا-حدوثها.
عيونهم كثيرة.
إنها فترة تجنيد إلزامية ولا مفر.
تتزاحم الرؤى.
المشنقة غليظة الفتل، تلتف حول العنق، تتدلى من سقف الأسمنت الصلد.
يتلو صفوت متن الحكم.
الضباط يراقبون مراسم التشييع.
أغرقه العرق.
يحاول مختار التململ والفكاك، ولكنه مشعلق في الأحبال الغليظة.
الطاولة التي يقف فوقها مهتزة، العيون المحدقة تتربص به."
أخيرًا خرج السكرتير معلنًا قبول الاستئناف شكلًا وتأييد حكم أول درجة.
الأرض لا تقدر على حمل مختار.
لم يصدق صفوت أن فصول الرواية قد انتهت.
أيمكن مختار ترميم الثقوب؟
اهترئ جسده،لحق به الهدم،اندثر بين انقاضه،زُعزعت أساساته.
لا يتخيل مدى السعادة التي تغلغلت خلاياه.
كُشطت الهموم من على كاهله.
يستطيع الآن المرور على اللجان الشرطية دون وجل.
فسد بيعهم يا معلم؛ بضاعتهم مضروبة.
أُطيحت أصفاده.
ويمكنه العودة إلى بولاق.اشتاق كثيرًا للشارع الضيق.
يود سماع سيمفونية عراك الجيران.
ومناكفة هاشم الحلاق الذي يتموضع فوق كرسيه ليقص شعره.
يطربه بالروايات المقتطعة من حقب التاريخ المتباعدة.
يسرد البطولات الخيالية لزعماء مجهولين.
اشتاق إلى سماع شحرورة الشارع، ملكة جمال الغرب والشرق.
النساء دونها أنصاف نساء،هذا ما تعتقده!
تتهادى والويل والثبور لمن لا يمدح جمالها، سرعان ما تلتف حوله خيوط اللعنات.
يمكنه الآن الضحك!
يغادران المبنى المكتظ بالناس.
غابت الشمس وطريق العودة طويل تقطعه المتاريس.
تمت بحمد الله
عصام الدين محمد أحمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق