..................
_ د / محمد البكرى
.................
!!!!!! { رواية .. المتاهة } !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
::::::::::::::::::::::::: ( الفصل التاسع ) ::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
كانت الأيام تمر متشابهة على عصمت الباهى وأسرته .. يستيقظ عند الظهيرة فينزل إلى المقهى القريب ، وبدون أن ينادى أو يطلب مشروبه ، كان عامل المقهى يعرف طلبه المعتاد الذى لا يحيد عنه ، فنجان القهوة السادة وحجر المعسل .
كان حين يمل جلسة المقهى يتجة إلى البحر عبر شارع السوق ليلقى سنارته ، وغالبا ما كان الطعم ينفذ دون أن يصطاد شيئاً ، وقرابة المغرب يعود إلى بيته ليتناول طعام الغذاء ، وحين يتلفت حوله تعرف زوجته أنه يبحث عن ابنته رباب ، فتبتسم وهى تخبره أنها بالدور الأول من المنزل ، تراجع حسابات الشيخ سليمان السوراكى ، ثم تستطرد .
: كان الله فى عونه .. محلات كثيرة على الفاضى .. العمال أيديهم طويلة .. ناهبين الخير كله لكن ريحاب ربنا يحرسها ، كل جنيه مكتوب عندها فى الدفاتر . الشيخ سليمان هيتجنن عليها ، تصور يا عصمت من حبه لها .. النهاردة وهو بيشرب الشاى قبل ما تنزل معاه ، قال لى أن مرتبها زاد ألف جنية كل شهر . بنتك شاطره أوى يا عصمت ، الشيخ سليمان اعترف بعظمة لسانة وهو بيقول "مفيش بنت فى مصر كلها ذى رباب .
ما كادت أم رباب تنهى كلماتها حتى دخلت ابنتها تخلل شعرها بأصابعها إلى الخلف ، وحين طلب منها والدها أن تجلس لتناول الطعام ، اعتذرت بصوت مجهد وهى تتجه لغرفتها قائلة أنها ستنام قليلاً .
كان وجهها حائلا ممتقعا بعض الشئ ، مما أثار هواجس عصمت ، فقام يسأل أمها عن أحوالها ابنتها الصحية ، فطمأنته وهى تخبره أن المجهود الذى تبذله ، هو السبب فيما يصيبها من الإجهاد فى بعض الأوقات .
قام يلقى عليها نظره وهى بغرفتها فأحست به ، ودون أن تفتح عينيها قالت :
: يا بابا الشيخ سليمان عايزك تنزل معاه رفح الليلة لإنهاء بعض الأمور .
قالت كلماتها وهى تسحب الغطاء فوق وجههاً .
****************************************************
كانت الساعة تقترب من العاشرة مساء ، حين فتح عصمت الباهى زجاج السيارة وهو يودع ابنه "أشرف" ، فأشار إليه الشيخ سليمان أن يلف إلى الجانب الأخر للسيارة وهو يفتح زجاج نافذته ، ليدفع برزمة نقود إليه قائلا :
: ألف جنية يا أشرف يا ولدى تحت الحساب ، أنا محتاج لك تشرف على مزرعة رفح . والدك عصمت بك هيحكى لك عنها حين يعود بالسلامة .
قال كلماته وهو يخلى قدمه عن "الدبرياش" لتتحرك السيارة . كان الجو قد بدأ يميل إلى البرودة والشتاء على الأبواب . فأغلق نوافذ السيارة وهو يسير بهدوء إلى رفح .
كان عصمت الباهى يدرك أن هناك شيئاً ما يود سليمان السواركى أن يفاتحة فيه ، وحين تنحنح سليمان كعادته لبدء الحديث ، التفت إليه عصمت وهو يشبك أصابعه فى عصبية ليفاجئة سليمان بقوله :
: إسمع يا عصمت .. صمت لحظات ثم استطرد .. أنا كلمت ابنك عن المزرعة التى سيشرف عليها فى رفح . ستراها بنفسك الآن . بها أنواع عديدة من الفاكهة ومساحتها تزيد عن الفدان . فيها بئر مياه وماكينة رفع واستراحة صغيرة .
: ربنا يزيدك يا شيخ سليمان .
: الحقيقة يا عصمت أنا ناوى ، والنية لله ، إنى أهدى المزرعة لك . ده غير خمسين ألف باكو هديه لبنتك رباب .
: هذا كثير والله يا شيخ سليمان !
: ما يكتر عليك شئ .. وهتعرف السبب لما نوصل رفح .
***********************************************
بداخل الاستراحة الملحقة بالمزرعة كان فى انتظارهم ثلاثة رجال فى ذى المجاهدين الأفغان . بدأ الأشيب وكان أكبرهم سنا الكلام بعد التعريفات اللازمة بين الجميع وهو يقول :
: الحقيقة يا أخ عصمت دورك معنا أيام خدمتك هنا من سنين طويلة ، جعل اسمك فى أول قائمة الرجال المؤهلين للقيام بالمهام الصعبة . طبعاً الأخ سليمان حدثك عن هديتك ، أما هدية زيارتك لى وتشريفك بيتك هنا فستكون السيارة "الوانيت" المصفوفة خارج الاستراحة ، لتستعين بها فى نقل المحاصيل والمشتروات الخاصة بالمزرعة .
: هذا كرم كبير يا أبو حفص !
: بعد ثلاثة أيام إن شاء الله سيصحبك أبو مصعب ، وأبو الدرداء ، ومعكم طبعاً الشيخ سالم ، لتلتقوا بعض الرجال فى مدينة " نخل " ، وأنتم بالطريق إلى مدينة شرم الشيخ ، ستكون ابنتك رباب معك ، فتنفيذ مثل تلك الخطط يحتاج إلى العنصر النسائى لتسهيل بعض الأمور ، وباختصار أنت مطالب بتفجر استراحة يقيم فيها بعض أعداءنا وأعداء الله !
اعتدل عصمت فى جلستة وقد فاجأة المطلوب . قطب جبينه مبديا التركيز وأبو حفص يكمل :
: الخرائط المطلوبة والتى ستحتاج إليها مسجلة على "اللاب توب" وهو هديتى لابنك أشرف . دفع باللاب توب إليه ، فتمتم عصمت بكلمات الشكر . هنا بدأ أبو مصعب يمسك بخيط الحديث ليكمل ما بدأه أبو حفص قائلاً :
: القنابل والأسلحة مع الرجال الذين سيشرحون لنا الخطة ونحن بالطريق إلى شرم .
قال كلماته وهو ينظر إلى أبو الدرداء الذى دفع إلى عصمت بمظروف كبير وهو يقول :
: فى المظروف خمسين ألف جنيه يا عصمت بك ، نصيب ابنتك وأوراق بيع المزرعة لك ، وكذلك توكيل لنقل ملكية السيارة لك .. بارك الله لك فيما رزقك .
انحنى عصمت وهو يستلم أجرة مقدماً عن العملية ، ويشكر الرجال الذين طالبوه بالانصراف لإعداء نفسه وابنته للسفر .
*****************************************
فى صباح الثلاثاء الذى تلا هذا اللقاء ، كان أبو الدرداء يتحرك بسيارة نصف نقل ذات كابينة مزدوجة ، وزيادة فى الحيطة والتموية تحرك بسيارته فى شوارع المدينة وكأنه سائح بهرته مدينة "رابح" ، كما كان يسمى الفراعنة مدينة رفح قديماً .
عبر أمام وحدة المرور ثم المركز الإعلامى ، ثم قسم الشرطة ومبنى الجوازات ، حتى وصل إلى المقهى القريب من الساحل . صف السيارة وجلس يحتسى فنجانا من القهوة العربى المخلوطة بالهيل ، ويسحب دخان النرجيلة على مهل .
كانت أمامه تلك الصخرة العالية المنحوتة من صخرة كبيرة من صخور جبال مدينة القدس ، والتى أقامها اليهود أيام احتلال سيناء ، ونحتوا عليها اسم ثلاثة عشر جنديا ماتوا جميعهم حين سقطت بهم طائرتهم فى هذا المكان ، وكان بينهم ابن "موشى ديان" وزير الدفاع أيامها ، وأقيم هذا النصب تخليداً لذكراهم . اقترب منه صاحب المقهى يسأله.
: عبجك النصب التذكرى يا شيخ ؟
: ياترى إية اللى مكتوب عليه ؟
مكتوب عليه !
ارتشف رشفة من الفنجان بصوت مسموع وهو يقول :
: البن ممتاز .
: والسلاح يمنعهم من التفكير .
: لو كان معى خمس رشاشات وثلاثة صناديق من المتفجرات ، فى كل صندوق ثلاثة كيلو جرامات وربك كنت سويت الهوايل .
: والزخيرة .
: عشرين خزنة .
إلى هذا الحد انتهى الحوار وعرف صاحب المقهى أن من يحدثه هو المقصود ، فأشار إلى صبى بالمقهى أن يغسل السيارة الشيخ ، فقام الصبى يقود السيارة خلف المقهى ليغسلها ووضع بها الزخيرة المطلوبة فى فراغ مجهز بالسيارة .
أنهى أبو الدرداء فنجان القهوة والنرجيله وقام يقود السيارة إلى الطريق العام . توقف عند صيدلية "د. سلوى برهوم" ليشترى فياجرا وبعض الأدوية المسكنة ، وراح يكمل طريقة متجها غرباً إلى مدينة "نخسو" الفرعونية التى سماها المصريون فيما بعد الشيخ "زويد" ، وعند محميه الأحراش توقف حيث تكثر أشجار الأكاسيا وحقول الخوخ واللوز والتين ، وهناك اقترب منه شاب يحمل قفصاً من التين وآخر من اللوز يطلب منه أن يأخذه فى طريقة ، فعرفه على الفور من الوصف المعطى له سلفا .
أقله بجوارة وأكمل المسير ليتوقف مرة أخرى عند سبخه الشيخ زويد على مسافة كيلو مترين من المدينة ، التى يقصدها لاصطحاب عصمت الباهى وابنته .
كانت طيور الشرشير والسمارى والخضارى ويعض الطيور الخواضة والمهاجرة ، يعج بها المكان ، ومن قلب هذا الزخم الزاخر بالحياة ، خرج شاب آخر فى ذى البدو يلقى عليهم السلام ويركب السيارة .
فى هذا التوقيت كان عصمت الباهى وابنته وسالم السواركى يستقلان سيارتهم الخاصة والتى تحمل لوحة ملاكى القليوبية ، فى انتظار المجموعة القادمة . كان سوق الثلاثاء بالشيخ زويد ساترا طبيعيا لحركة المجموعة ، وقد ازدحمت المدينة بالقادمين من النجوع والواحات القريبة للبيع والشراء .
اتجهت السيارتين بفاصل غير طويل يسمح بالرؤية والمتابعة إلى مدينة العريش ، ومنها اتجهوا جنوباً إلى أبو عجيلة ومنها إلى واحة القسيمة . وهناك كان الكثير من المهاجرين يقيمون فى الخيام فى انتظار الفرج ، وعودة الهدوء إلى وادى النيل . رأى صبى السيارة وعليها ملاكى القليوبية فاقترب مبتهجاً وهو يسأل عصمت الباهى .
: أنتم من المختارين وجئتم لتطمئنوا علينا ، أهلا وسهلا أنا ذاهب لأنادى لكم مندوب المختارين المهندس حسام والدكتورة إيلاف .
أسرع عصم يوقفه وهو يقول له :
: لسنا من المختارين .. نحن مهاجرين من القاهرة .
: ولكن السيارة عليها لوحة مرور من القليوبية موطن المختارين .
: آيه المشكلة .. النمر قليوبية والمهاجرين من القاهرة .
: خسارة كنت اتمنى أن التفى بمختارين آخرين . أنا وكل المهاجرين بالواحة يحبون المختارين !
: اجتاح الغضب الشيخ سليمان وهو يطلب من عصمت بلغة آمرة أن ينطلق مسرعا ، اتجه الجميع إلى منطقة بئر الحسنة ولم يتوقفوا بها . أكملوا عبر الصحراء إلى مدينة "نخل" ، تلك المدينة التى كانت عاصمة سيناء حتى الحرب العالمية الأولى ، وأيضا كان المهاجرون يكثرون بها وقد اتخذوا من المساكن الشاغرة والاستراحات والخيام مأوى لهم . توقفوا عندها ليتناولوا الغذاء فى استراحة "المعمورة" ، بعدها اتجهوا شرقا إلى مدينة "التمد" ، ومنها اتجهوا شرقاً إلى ميناء نويبع ، ثم أكملوا جنوباً حتى مدينة دهب وهناك توقفوا عند الكمين ، فنزل "عصمت الباهى" يتحدث إلى ضابط بالكمين وعرفهم بنفسه ليسمحوا له بالمرور دون تفتيش .
لم يكن قد تبقى على شرم سوى نحو ثمانين كيلو مترا قطعوها ليبغلو اهدفهم قبيل الغروب ، ومع كمين شرم كرر عصمت الباهى ما فعله مع كمين دهب .
***********************************************
كان نادى اليخوت والرياضات البحرية يبدو بجمالة ورونقة ، واللنشات البيضاء تفترش سطح البحر الأزرق ، والشمس تميل إلى المغيب تلقى ذهبها فوق سطح الماء الهادئ . اتجهت المجموعة تقصد شارع الخزان حتى وصلت إلى الهضبة .. كان مسجد السلام أول ما قابلهم ، توقفوا برهة عن عمد ، وكأنهم أغراب يستطلعون الطرق ، ثم واتجهوا فى الطريق الخطأ سالكين شارع السلام إلى السوق القديم ، ومنه إلى المشاية فى اتجاه منطقة "الغرقانة". توقفوا ليسألوا عن سكن رخيص فلم يجدوا فى تلك المنطقة المعروفة برقيها ، وارتفاع الإيجارات . وصف لهم أحد العمال الهضبة ، حيث يمكنهم العثور فيه عل ىسكن معقول السعر ، أو الإقامة بالخيام الملحقة ببيت الشباب فوق الأرض الفضاء ، التى كانت مخصصة من قبل لإقامة ملاعب الأولمبيات . عادوا أدراجهم إلى شارع السلام مرة أخرى ، وفى الجهة المقابلة لمسجد السلام سلكوا شارع "شرم ليزية" ليتوقفوا عند أحد الموتيلات ، حيث كان مديرالفندق الصغير بانتظارهم .
****************************************
كانت صباح الأربعاء خريفى رائع .. ارتدت رباب تايير يوحى بالحشمة ويبرز كل مفاتن جسدها ، الذى ورثته عن أمها . مسحت جنتيها بأحمر خدود غير مستفز ، يبدو لغير العارف أنه حمرة طبيعية ، تتجه لأعلى مبتدءا من مسافة قريبة من أعلى الفم ، رسمت بها زاوية حادة على خط الفم المغلق . وضعت طبقتين خفيفتين من الروج الفوشيا والبرتقالى ، وحددت شفتيها بقلم تحديد أرجوانى اللون ، فى تناغم مع الماسكرا وظل الجفون المتازج بالوان سماوية ، تتهامس وقرط ذو فصوص بلون التركواز ، كل هذا أسفل شعر منكوش فى نظام ، يبدو للناظر أنه لإمرأة خارجة لتوها من معركة حامية ، لثير غرائز الرجال وحنق النساء .
كان والدها عصمت بك يراهن عليها دائماً ويكسب الرهان ، لم تخذله أنوثتها مع أى رجل أرسلها إليه ، وكالمعتاد كان واثقاً من انتصار ابنته فى معركة المختار محمد ، واعتبرها أهون المعارك .. فبحسب معلوماته الهدف أرمل ، وقبل مقتل زوجته كان وحيداً بسبب ما ألم بالبلاد .. ورجل تلك هى ظروفه سيكون صعباً عليه أن يقاوم ابنته .
****************************************
خرجت رباب من الموتيل تتقاذفها خطوات لدنه ، يذكيها هذا الكعب العالى من لدائن البولى إستر ، التى تشبه قوام الفلين الهش . تعلم وتعى تماماً أن ملابسها الموحية بالحشمة لا تخفى خصرها النحيل ، وأن مشدات السوتيان اللينة تسمح لنهديها بالقفز كحمامتين متجاورتين ، يفزعهما دائما شئ ما فتهمان بالطيران ، وبعد أن تشبا فى الهواء ، تشعران بالأمان فتعودان مرة أخرى إلى حيث كانا . هكذا فى حركة دؤوبه لا تقف ولا تنقطع لتدير رأس أعتى الرجال .
كانت بحاسيتها الأنثوية تشعر أن الرجل أضعف ما يكون أمام نهدين يذكرانه بطفولته ، التى حرم فيها من أكمال الرضاع ، فى ظل مجتمع يدفع المرأة للعمل وما يستتبعه من إهمال الرضاعة الطبيعية ، فيظل عمره بالكامل ، وحتى يدخل القبر وهو يبحث عن ثدى أمه فى كل النساء .
إنسلَت رباب إلى قرية "صن سيت" ، وطلبت أن ترى المختار محمد وبريق التماسيح فى عينيها . حدثته عن أمها التى ماتت فى الأحداث ، ووالدها الذى أصيب فأصبح لا يستطيع السير بدون معونة عكازه . انخرطت فى الدور لتنساب أولى دمعاتها لتفسد جزءا يسيرا من مكياجها ، وهى ترجوه أن يجد لها عملاً ومكانا تقيم فيه ، قبل أن تنفذ نقودها التى أتت بها من مصر .
ابلغته تحيات والدها الذى سيأتى فور تحسن حالته ليشكره ، وإنهت كلماتها وهى تعتذر عن الإزعاج ، وتستأذن فى العودة ، لتطمئن على والدها وتعطيه أدوية الجلطة والضغط والسكر .
تأثر المختار محمد بالظروف التى تعيشها إحدى بنات مصر ، وعاش معها مأساتها وهو يتذكر زوجته ، التى قتلت كأمها فى الأحداث . وعدها أن يعمل ما بوسعه من أجل أبيها المريض وأن يجهز لهما مكانا مناسبا للإقامة .
******************************************
كانت سارة تراقب ما يحدث وهى تغلى ، وتسأل نفسها عن تلك الفتاة التى كان لديها هذا الوقت للعناية بمظهرها ، وهى فى تلك الظروف .. أشاحت بيدها فى الهواء وقد اعتراها الغضب وهى تحدث نفسها :
: تلك المرأة وراءها شئ . لقد جاءت للغزو لا لطلب المساعدة . لقد كانت تحاول التأثير على المختار محمد بتنهيداتها المصطنعة ، وخضوع نبراتها وانكسار نظراتها . أحست سارة أن كل عفاريت العالم تتنطط أمامها . قامت تتجه إلى غرفتها حيث تقيم هى وريهام وانجى . غابت دقائق وخرجت ترتدى "تي شرت" ، وشورت جينز" ، وهى تترك لشعرها العنان . قفزت فى حمام السباحة بعصبية لتقطعه عدة مرات جائية وذاهبة ، مستعرضة مهاراتها فى كل أشكال العوم على الظهر والبطن .
اغرقت انجى فى الضحك مما حدث ونظرت إلى ريهام وهى تبتسم ابتسامة عريضة وهى تقول :
: لقد بدأت أولى المعارك النسائية على المختار محمد ، ونحن بالطبع لن نسمح بفوز تلك الغازية المستفزة .. سيكون النصر حتما من نصيب سارة !
ابتسمت ريهام ابتسامة حزينة وهى تقول :
: اسمعى يا إنجى .. قلبى مقبوض .. أنا غير مستريحة لتلك الفتاة التى انشقت عنها الأرض فجأة ، ولا أصدق القصة التى التقطتها أذنى وهى ترويها للمختار محمد .
: اطمئنى يا ريهام إحنا صاحيين أوى لا تتعجلى الأمور .. ما من خفى إلا وسيظهر . وبعدين هتروح فين المفعوصة دى من سارة بعد ما لبست الشورت والباقى جاى فى الطريق !
تلألأت فى الأرجاء أصداء ضحكة طويلة رائقة رغم كل شئ ، وتوقفا وسارة تقترب منهما وهى عابسة تنظر بحدة من طرف عينيها إلى المختار محمد . قامت إنجى تمسك عنها المنشفة وتساعدها فى تجفيف جسدها . لاحظ المختار محمد ما يحدث . لم يحط تمام بمغزى ما كان ، ولكنه شعر بإبر الغيرة تشكشكه وهو يرى سارة بملابسها المبلولة ، وقد التصقت بجسدها لتبرز مفاتنها أكثر .
*****************************************
بعد غروب الشمس مباشرة وكالمعتاد ، أعدت سارة فنجان القهوة للمختار محمد ، وعلى غير العادة كانت تهتم إلى أقصى حد بمظهرها . دخلت من باب مكتبه بخطوط رقيقة وهى ترتدى لأول مرة بنطلون استرتش أبيض ، كانت تحتفظ به ولم تجد داعيا من قبل لارتداته ، وبلوزة سوداء تركت الزرار الأول فيها مفتوحا . تركت لشعرها العسلى القريب من الكستنائى العنان وهى تنثر عليه عطرها المفضل "رومبا" .
لم يكن المختار محمد يعرف أن سارة تكن له كل هذا الحب ، الذى يتناسب وغيرتها عليها .
تذكر سمعان وغلبه الحنين لصديقه ، فقام من وراء مكتبة وسألها وهو يبتسم :
: ممكن أعرف إيه اللى بيحصل !
نظرت سارة إلى الأرض ولم تجب .. اقترب منها وهو يجذبها من كتفيها .. ناداها باسمها فرفعت أهدابها إليه لحظة لتردها مرة أخرى إلى الأرض ، رفع ذقنها بيده لينظر فى عينيها ، لم تكن فيها النظرة الرائعة دائما ، والتى يرى فيها ليس فقط قاع عينيها ، بل أعمق أعماق قلبها وعقلها ، وكأنها كيان شفاف يظهر كل ما بداخله . ضمها إلى صدره برفق وهو يقول :
: سارة .. أنا مش ممكن أشوف حد غيرك !
نظرت إليه ولم تتكلم .. اقتربت منه حتى التصقت به ، وضعت رأسها على صدره وهى تهمس .
: أنا حبيتك يا محمد .. سامحنى .. أنا مقدرتش أسيطر على مشاعر الغيرة . أنا مليش حد فى الدنيا دى غيرك !
تعانقا وطال العناق حتى سمعا صوت إنجى على الباب تستأذن . دعاها المختار محمد للدخول فابتعدت عنه سارة قليلاً وهى تحس بخجل يغزوها . ابتسمت أنجى وهى تقول :
: والله كتر خير رباب .. يا ريتها ظهرت قبل كدة عشان تعترفوا بالحب . على فكرة رباب ووالدها بالخارج ، وأنا طلبت من المختار أحمد ، أن يجد لهما غرفة مناسبة فى بيت الشباب ، حتى لا تكون اقامتهما معنا هنا وتشتعل المعارك .
ضحك المختار محمد وهو يبدى موافقته على تصرفها وخرج ليستقبل عصمت الباهى ، ويخبره أن يجهز نفسه لينتقل غدا إلى المكان الذى سيعده له ولابنته المختار/ أحمد .
مضى الوقت والمختار محمد يتحدث إلى عصمت بالحديقة الخلفية للقرية عن أحوال مصر ، واعجبته معلوماته الكثيرة التى كان يخرجها بترتيب دون أن يقول أنه ضابط شرطة سابق .
قام عصمت يستأذن وهو يشكر المختار محمد ويبدى اعجابة باللقاء الممتع ، وبحديقة القرية والمقهى الذى يتوسطها ويتخذ منه النزلاء ملتقى يجتمعون فيه .
كانت ريهام تشعر بشئ يقبض قلبها منذ ظهور رباب ، وازداد هذا الأحساس وهى ترى والدها ، كانت تشعر بشر يقترب ، وكأن أفعى اسطورية تلف نفسها حول القرية ، وهى ترغب فى ابتلاع كل من فيها .
أمضت وقتاً طويلاً على غير عادتها بجوار حمام السباحة تحاول طرد أشباح القلق والتوجس من قلبها . كانت انجى تلاحظ ما حل بصديقتها ، فحاولت فتح مواضيع كثيرة لتلهيها عما يعتمل فى نفسها .
*****************************************
فى هذا اليوم لم تنقطع زيارات المختارين الجدد لمقابلة المختار محمد ، يستشيرونه ويعرضون تصوراتهم للتعامل مع ما يستجد من أمور ، وسارة لا تهدأ لحظة وهى تستقبل جماعة وتودع أخرى وتهتم بما يقدم لهم من واجب الضيافة ، وحتى انتصف الليل . راحت سارة تبحث عن صديقتيها لتقص عليهما كالمعتاد أحداث اليوم ، وتوقفت عن البحث وهى ترى الغرفة التى يقيمون فيها معاً مضاءة . كان الوقت قد تخطى منتصف الليل . لم تجد فى نفسها رغبة فى الصعود للنوم شعرت برغبة فى الانفراد بنفسها ، فاستلقت على أحد الشيزلونجات حول حمام السباحة ، وهى تنظر إلى أضواء القرية الخافته على صفحته فى هدأة الليل ، وقد نام كل من بالقرية إلا القليل . راحت تسرح فيما كان بينها وبين المختار محمد ، خلال الستة والثلاثون ساعة التى انقضت ، كان عقلها يطرح الأسئلة وقلبها يجبيب ..
* هل تجبين محمد ؟
: نعم أحببته .. وليس تنفيذا لوصية سمعان وهو يغادر الدنيا ، فوصيته كانت أن أهتم به وبأولاده ولكنى تعديت الاهتمام إلى الحب .. إنهم بحاجة إلىً وأنا بحاجة إليهم . إنهم كل حياتى وأنا لهم الأم والراعية .
* لا تحديثنى عن الحاجة .. أنا أتكلم عن الحب ؟
: نعم أحبه .. والدليل ما حدث عند ظهور رباب .
* هل ترغبين فى الزواج منه ؟
: نعم أرغب فى الزواج منه .
* هل تحبينه لأنه قد يصبح رئيس دولة أو شخصاً مهما فى كيان جديد يولد شيئاً فشيئاً ؟
: أنا أحب فيه الإنسان .. الإنسان فقط .. إنه لا يفكر فى دولة ورئاسة .. إنه يفكر فى شعب جار عليه الزمن وهزته بعنف المحن ، وصار مهدداً بالاختفاء من الوجود .
* هل ستفاتحينه فى الزواج أم ستنتظرى ليفاتحك هو ؟
: بل أنا التى ستطلبة للزواج فوراً . أنا لست خجلة من هذا . وهو لا يملك الوقت ليبحث عن احتياجاته ، ويكتشف أحاسيس قلبه .
* هل تعتقدين أن مشاعره تجاهك حب وليست احتياج ؟
: أعرف أنه يحبنى حتى ولو لم يكن يعرف .
* ماذا ستفعلين ؟
: أبداً .. سأقوم ببساطة لأنام على دقات قلبه التى احسستها ، وهو يضمنى إلى صدره الحنون اليوم .
********************************************
كانت الساعة قد تخطت الواحدة صباحاً حين قامت سارة لتنام ، اقتربت من السلم لتصعد إلى غرفة رقم (11) حيث تقيم مع إنجى وريهام ، وفجأة توقفت على صوت صرخات فى مدخل القرية . كان الصوت قادما من مكتب الاستقبال . عادت أدراجها سريعاً لتستطلع الأمر فرأت ريحاب تسند أباها وهو بالكاد تحمله ساقيه ، وهى تسأل عن المختار محمد بصفته صيدلى ، لكى ينقذ أباها .
اجتازت حمام السباحة وأقبلت سارة تعاونها ، وفى الحديقة الخلفية قابلهم "نورالله" فرجته رباب أن ينادى المختار محمد ، وهى تصرخ أن والدها يموت بين يديها . أجلسته على أحد الكراسى وخرج المختار محمد وقد علا صراخها مرة أخرى حين وقع أبوها على الأرض ، وقد التف حوله القليل ممن جافاهم النوم تلك الليلة .
حاول المختار محمد إفاقته وهو يستعين بالبعض ليمدده على الأرض ، بشكل يسمح بتدفق الدم إلى المخ بشكل أفضل ، وفى تلك اللحظات التى انشغل فيها الجميع كان أبو حفص وأبو الدرداء وباقى الصحبة التى أتت معهم ، وقد لفتهم ملابس سوداء كسواد الليل ، يقفزون من فوق السور الخلفى للحديقة ليزرعوا عبواتهم المتفجرة حول مكان إقامة المختار محمد ، وأحاطوها بالنجيلة للإخفاء والتمويه . انسحبوا فى دقائق من نفس الطريق الذى أتوا منه .
اطمئن المختار محمد على عصمت الباهى ، وطلب منه أن يمضى الليل فى غرفته حتى الصباح ، لينقله إلى مستشفى شرم لعمل بعض التحاليل زياده فى الأطمئنان ، ولكن الرجل رفض فى حزم أظهر أن به قوة كان يخفيها ، وانصرف وهو يرتكز على ابنته ويشكر الجميع .
كان ما حدث قد ايقظ ريهام وانجى وانضمت لهما سارة فى عدم تصديق لما كان . كدن أن يصيبهن الجنون وهن يحاولن تفسير ما يحدث ، كان المختار محمد قد صعد غرفته حين أتى نورالله مسرعاً إليهن ، وفى يده شئ يلمع وحين اقترب أكثر رأين بيده مسدساً ، قد تم تثبيت جلده رضاعة أطفال على فوهته ، وهو يقول أنه وجد هذا المسدس بجوار السور ، وهو يتفقد المكان كالمعتاد خوفاً من لصوص أو متطفلين .
صرخت ريهام وقد أصابها شيئ من الذهول تقول :
: المختار محمد هو المقصود .
******************************************
أتى المختار/ صموئيل وأمسك المسدس يتفحصه ، وحين سألته انجى عن جلده البزازة المثبتة بفوهه المسدس ، أخبرهم أنها تقوم بدور كاتم صوت بكفاءة عاليه ، وهذا يعنى أن هناك من اقتحم القرية من جهة السور ، وكان يحمل هذا المسدس قبل أن يقع منه ، أو أنه متروك عن قصد ليعثر عليه آخر بهدف استعماله ، لترد سارة معلقة على رأيه .
: الاحتمال الأول أقرب للصواب ، فإن كان هناك من يحتاج إلى سلاح فمن السهل أن يستلمه من إنسان آخر باليد ، دون حاجة إلى قذفة داخل سور القرية ، والأغلب أن هذا تم منذ فترة وجيزة ، ربما خلال تلك الفترة التى كانت فيها رباب وأبيها هنا .
تحدثت ريهام بانفعال وهى تقول :
: هذا المسدس وقع الآن ممن تسلق السور ، وهو لم يكن بحاجة لاستخدامه ، لقد دخل لهدف آخر أنجزه بنجاح وانصرف ، ولم يعترضه أحد ليضطر إلى استخدام السلاح .. هل قام بدس السم مثلاً فى طعام الإفطار ليقتل كل من بالقرية .
: فردت سارة فى لحظة وهى تقطع كلماتها.
: بل زرع عبوات متفجرة ، علينا أن نخلى القرية حالا وخصوصاً الغرف المحيطة بالحديقة الخلفية ، وبالأخص غرفة المختار محمد .
فى لحظة كان المستيقظون يصيحون على الجميع أن يتجهوا لخارج القرية.
نزل المختار محمد مسرعا وبدأ يستعين بالشباب الذى استيقظ ، ليصعدوا إلى الغرف ويحملوا الأطفال ، ويساعدوا كبار السن ، وألا يعلنوا لأحد شكوكهم ، وأن يفهموهم أن هذا إجراء احترازى فقط ولمدة لن تـتجاوز ساعة واحدة .
تمت عملية الإخلاء بنجاح وفى وقت قياسى ، وبينما كان عصمت الباهى ومن معه يستعدون للانسحاب من مدينة شرم . كانت أجهزة التفجير عن بعد فى أيديهم ، وبمجرد مرورهم من ناحية السور الخلفى ضغطوا الأزرار ، وانفجرت عبوتان فقط من ثلاثة عبوات زرعت حول الغرفة التى كان المختار محمد يقيم فيها . اهتزت القرية بعنف وتطاير الزجاج وإنهارت تماماً غرفة المختار محمد وغرفتين مجاورتين لها .
ابتسم عصمت وهو يسمع صوت الانفجار ، وابتسم المهاجرون والمختارون وهم يشكرون الله على لطفه بهم ، بينما امتدت الأيدى ترفع "نورالله" فى الهواء ، وهم يشعرون أن الله قد جعله سبباً فى انقاذهم .
______________________________________________ د / محمد البكرى
رقم الإيداع ( 24278 / 2009 م )
الرقم القومى ( 101513 )
الترقيم الدولى ( 6505 - 17 - 977 )
{ 6 أكتوبر - الحى المتميز - ش محمد رفعت } ( تمت فى نوفمبر 2008 م )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق