.................
مؤنس بدرالدين
.......
سيّدة فرنسية طرحت على غوغل هذه الأسئلة : من هو غاني تسيباييف ؟ من أين أتى ولماذا اختفى ؟ لم تجد السيّدة في غوغل إجابة لأسألتها والسبب والده الذي دفع الكثير لكي يخفي أخباره وصوره ، عندما قرأت إجابة غوغل لها : ليس هناك من إجابة لطلبك ، أردت أن أتدخل ، أردت أن أقول الكثير ، أردت أن أقول بأنّ اسمه غاني قاسم وهو لبنانيّ الأصل وصديق لي على الفيسبوك ، لكن إمكانية التعليق لم تكن متاحة ، و غاني قاسم لا يُختزل في إجابة من سطرين ، إنه ليس بفتى عاديّ ، بل هو أسطورة .
ألأسطورة .. غاني قاسم
ذهب الشاب عادل قاسم إلى موسكو لدراسة هندسة الكمبيوتر ، بعد أن إتقن اللغة الروسية وخلال سهره في أحد المقاهي أعجبته فتاة كانت تعزف على الغيتار وتغنّي أغاني صاخبة هادفة أذكر منها : تخلّصي من سيجارتكِ أيها الفتاة ، ألخشونة لا تليق بكِ ، أنتِ لستِ رجُلاً . شكلها الجميل المتمرد أعجبه ، بدأ كل مساء سبت يحجز مكاناً قرب المسرح ليكون قريباً منها . بعد عدّة سهرات وإشارات إنتظرها خارج المقهى ، قدّم نفسه لها قائلاً : عادل قاسم من لبنان ، أجابت : أولغا ، وأضافت ضاحكة ، من موسكو .
شرارة الحبّ إشتعلت بينهما ، كان يأتي إلى المقهى لكي يستمع ويشاهد وصلتها الغنائية ، وهي كانت تجول بنظرها بحثاً عنه ، تبتسم له ثمّ تبدأ في الغناء ، بعد سنة تزوجا وأنجبا صبيّاً جميلاً أسمياه : غاني .
تعلم غاني من صغره عزف البيانو والغيتار والغناء ، أحبّ الصيف لأنه كان يأتي لزيارة منزلهم في جنوب لبنان ، أجاد العربية إلى جانب الروسية ،الثرثرة مع أطفال قريته بالإضافة إلى دروس خصوصية جعلاه يتكلم العربية كطفل عربي ، على مسرح مدرسته في موسكو كانت مدرِّسة الفنون تقول دائماً : مستقبل هذا الطفل عظيم ، لديه من الصوت والحضور ما يكفي لجعله نجماً .
في آخر زيارة له إلى لبنان كان غاني في الثامنة من عمره ، بدأ عادل يكلّم أولغا عن الأستقرار في لبنان والعمل فيه ، أولغا أصرّت على العيش في موسكو ، بعد عودتهم إلى موسكو بدأ الخلاف بينهما يكبر ، لم يعد عادل يريد السماح لها بالغناء ، كان يقول
لها : كما كنت أنظر إليك بنظراتٍ حبّ ، أرى الكثير من رواد المقهى ينظرون إليكِ ذات النظرة ، هذا عذاب دائم لي ، أجابت أولغا : عملي هو الغناء والعزف ، وإن لم أكن أكثر من مغنّية في مقهى فهذه هي حياتي التي أحب أن أعيشها ، ألبعد عن الغناء يقتلني .
إشتّد الخلاف بينهما ، لم يعد هناك من مجال للعودة إلى الوراء ، أخبرا غاني بالموضوع وبأن عليه أن يختار مع من يريد أن يعيش ، مع والده أو والدته ؟
الإختيار لم يكن سهلاً أبداً ، ف غاني يحبّ والده ووالدته ، لقد وضعاه وهو في عمر صغير تحت إختيار صعب ، كأي طفل في عمره ، كفّة الوالدة كانت أرجح قليلاً عنده ، وهو دامع الأعين قال : أختار العيش مع أمّي . لقد علِم بأنه سيخسر أصدقاء الصيف في لبنان ، سيخسر جدّه وجدّته ، سيخسر بحر صور ، لكنه لم يستطيع أن يخسر بالمقابل ، موسكو ، رفاقه ، مدرسته ، والدته .
عاد عادل قاسم إلى لبنان ، عمِل في شركة للهندسة لفترة قصيرة ، ثمّ أرسل له إبن عمه الذي يعمل مهندساً في ألمانيا دعوة لزيارته . عندما وصل إلى ألمانيا وفي الشركة التي يعمل فيها إبن عمه شاهد فتاة عند ماكنة القهوة تسكب فنجاناً ، طلب منها وبلغة أنكليزية أن تسكب له فنجاناً أيضاً ظناً منه أنها تعمل على الماكينة ، سكبت له فنجاناّ، فسألها عن ثمنه أجابت : ألقهوة مجاناً لمن يعمل هنا ومن يزورهم ، أكملت قائلة : هل تريد أن أعرّفك على عمل الشركة ؟ أجاب : طبعاً ، بدآ بالسير معاً ، سرعان ما أصبحا أصدقاء ، بعد أن وعدها بالعودة غداً للزيارة ، وعند وصولهما إلى حيث يعمل إبن عمه ، إفترقا .
قال له إبن عمّه : يا لك من داهية ، كيف استطعت أن تتعرف عليها ؟ أجاب عادل : من ؟ عاملة القهوة ؟
ضحك إبن عمّه وقال : ليس هناك من يعمل على ماكينة القهوة ، ألنظام هُنا ، إخدم نفسك بنفسك ، وهذه الفتاة هي إبنة صاحب الشركة ووحيدته ومن الصعب أن تصادق أحداً بسهولة كما فعلت معك .
عاد عادل إلى الشركة في اليوم التالي وقابل إيلين ، قال لها : يُشرّفني أنّك قبلتِ صداقتي في حين أنّكِ رفضتِ جميع من حاول التكلّم معكِ ، أجابته : لقد أرادوا جميعهم التقّرب من إيلين الثريّة إبنة صاحب الشركة ، أمّا أنت فقد أُعجِبت ب إيلين العاملة على ماكينة
الماكينة ، لذلك تجاوبت معك ، سرعان ما أصبح من موظفي الشركة ومن ثمّ تزوجا هو و إيلين ، سكن معها في منزل أهلها ، هذا كان شرطاً من والدها ووالدتها ، أنجبا صبيّا ، حياتهما كانت جميلة وروتينيّة ، هو وهي يحبّان العمل والعشاء في المطاعم .
أصبح غاني في التاسعة من عمره ، جارهم بافل لاحظ جرأته وشخصيته وحضوره ، كان بافل يدير شركة صغيرة للأزياء ، طلب من والدة غاني أن تُشرك إبنها في عرض الأزياء ، وافقت الوالدة وأصبح غاني من أصغر عارضي الملابس الداخلية في شركة بافل ، شاهد والده صوره على الأنترنت فاشتعل غضباً ، اتصل بوالدة غاني وتشاجر معها قائلاً : لا أريد أن يخلع إبني ملابسه على مواقع الأنترنيت ، هذه الحالة زادت كثيراً في الشرخ بين عادل وطليقته ، ثم بدأ غاني بعرض الملابس الرياضية .
بدأت والدته تتدهور صحيّاً ، ألأطباء أعلنوا بأن وفاتها سيكون بالكثير بعد أشهر غاني كان دائماً في المنزل بجانب سريرها وفيما بعد إلى جانبها في المستشفى ، لم يصدّق بأنّ والدته المليئة بالحركة والمحبّة للحياة ممكن أن تتركه وتموت ، لكن المرض فتك بها وغاني لم يتعدّى عامه العاشر، إتصلت والدتها بوالد غاني في ألمانيا ، فجدّته والدة أمّه لم تكن بصحّة جيّدة تسمح لها برعايته ، جواب والده كان : هو من اختار أن يتخلّى عنّي ، أنا لم أتركه للحظة ، ألآن أنا أعيش حياة جديدة لا مكان له فيها ، أقفل عادل قاسم ألهاتف ، دمعت عيناه ، فهو يعيش في منزل أهل زوجته فكيف سيأتي لهم بولد من زواج آخر قد يفسد الودّ الذي بينهم ، يعود ليواسي نفسه قائلاً : هو من تخلّى عنّي ، هو من سمح بنشر صوره الفاضحة على الأنترنت .
عندما علم جارهم بافل بالموضوع ، عرض أن يتبناه ، وافقت جدّته فوراً ، هكذا أصبح غاني قاسم رسميّاً : غاني تسيبايف وجنسيته روسية من أب وأم روسيان .
بدأت مسيرته في عالم الأزياء تكبر ، أصبح عارضاً للملابس العادية أيضاً ، في الثانية عشرة من عمره بدأ باحتراف الغناء ، أنشد أغنية بدون موسيقى لفيلم روسي شهير أعجبت ألملايين في هذا الوقت بدأ يسطع نجم ولد آخر إسمه كرللا فلاد وبدأت بينهما المنافسة .
كان غاني هو الأجمل والأطول والمتعدّد ألمواهب ، بينم كرللا كان مدعوماً من شركة إنتاج موسيقي قويّة لذلك برز غنائياً أكثر من غاني .
عندما أراد فاديك وهو مخرج تلفزيوني لقناة دوجد ألروسية تقديم برنامج تلفزيوني للمراهقين والفنانين الصغار نظامه هو التالي : مقابلة مع المطرب ، بضعة أسئلة ، ثمّ يغنّي ألمُقدم أغاني للمطرب ويغنّي المطرب أغاني للمقدِم ، تقدّم الكثيرون للحصول على هذا العمل ، في التصفية بقي كرللا فلاد و غاني قاسم ، أخيراً وقع الخيار على غاني قاسم ، جنّ جنون صاحب الشركة الموسيقية التي ترعى كرللا ، سأل صاحبها محتداً : لماذا ليس كرللا ؟ أجاب فاديك : ببساطة هذا تلفزيون ، والتلفزيون يعتمد على الشكل والأداء ، كرللا و غاني متقاربان في العمر لكن غاني أطول وأجمل ويتصرّف كرجل ، بينما كرللا يتصرّف كطفل .
سُمّي البرنامج تسيبايف شو ، وقد إستقبل فيه غاني نجوماً صغاراً ومراهقين ، ك سيلينا غوميز ، مايلي سايروس ، جاستين بيبر ، والكثيرين غيرهم ، لكنه رفض إستضافة كرللا فلاد .
رأى بافل أن إمكانات غاني تفوق إمكانات شركته الصغيرة ، أرسل صوره وفيديوهات له إلى وكالة فلوريان بودلكا في باريس ، قبِله فلوريان بسرعة ، إحساس فلوريان لا يخيب ونظراته ثاقبة كالصقر ، يعرف بسرعة إذا كان الشخص مناسباً للعمل معه . بدأ غاني مشوار الشهرة في أوروبا .
كان يسافر كلّ أسبوع ، إلى فرنسا أو إيطاليا أو بلجيكا ، يغيب عن مدرسته نهار الجمعة ، ويسافر لمدّة ثلاثة أيام ، أصبحت حياته مُقسّمة ما بين الغناء والتلفزيون والأزياء .
كان يحب دائماً أن يتذكّر الطريق إلى منزله في جنوب لبنان ، كان يخاف أن يأتي إلى لبنان ولا يعثر على طريق منزله ، كانت هذه الطريق هي هاجسه الدائم ، ذات يوم حاول أن يتذكرها ولم يستطع ، حاول وحاول دون جدوى ، ترك رسالة على الفيسبوك إلى جارتهم الطيّبة التي كان يناديها عمّتي يطلب منها تصوير طريق منزله وإرسال الصورة له .
، في اليوم التالي وجد رسالة منها تقول : عزيزي النجم ، إنسى ماضيك وتابع حياتك ،
للأسف أنا مضطرّة لأخبارك أن والدك باع منزلكم ولم يعد عندك من منزل لتتذكر طريقه ، قلبي هو منزلك وقلوب جيرانك أيضاً ، سوف تكبر وتشتري منزلاً غيره وتعود إلينا ، نحن بانتظارك .
كان حزيناً جداً عندما تكلّم معي ليلاً على الفيسبوك ، حزنه قرأته في عباراته ومن لغته ألروسية ، كان يتكلم معي بالروسية فقط عندما يكون الموضوع جديّاً أو حزيناً ، قلت له لا بأس ، تستطيع أن تشتري مكانه قصراً ألآن بثروتك ، أجاب : لا أريد قصراً ، أريد منزلي وسأسترجعه بأي ثمن ، عندما أُصبح في الثامنة عشرة سآتي إلى لبنان وسأسترجعه . بعدها طلب من أحد أصدقائه الفيسبوكيين من الجنوب " حسن قاووق " أن يبحث له عن منزله ومن يسكن فيه ومعرفة إمكانية إسترجاعه .
قال لي ذات يوم فرحاً ، على الفيسبوك لدي الآن أصدقاء من من مختلف ألمناطق في لبنان ، سأزورهم جميعاً عندما أصبح في السادسة عشرة ، جميل أن يكون عندك أصدقاء من بلدك .
ذات يوم دخل حاجب المدرسة إلى غرفة صفّ غاني وقال للأستاذ بأن المدير يريد مقابلة غاني . أربكت هذه الدعوة غاني ، لماذا يريد المدير أن يقابله ؟ لم يصدر عنه أيّ سلوك سيّء من حيث التصرّف ، في الرواق سأل الحاجب ماذا يريد المدير منه فأجابه : لست أدري ، ثمّ أردف مبتسماً : لا أظن أن في الأمر سوءً ، فالجميع يحبّك وهم فخورون بوجودك بينهم ، أنا أكاد لا أصدّق بأني أسير إلى جانبك ، فكّر غاني : هل هم يحبّونني حقاً أم يشفقون على نجم فقد أهله وأغنياته تقطر حزناً .
طرق الحاجب باب الإدارة وفتحه وتنحّى جانباً ليفسح ل غاني مجال الدخول قائلاً : غاني تسيبايف حضرة المدير ، أجاب المدير : فليتفضّل .
دخل غاني بخطى مضطربة ونظرات متسائلة ، ألقى التحيّة بخجل فهو على المسارح نجم جريء لكن في حياته العادية متواضع وخجول يعرّف عن نفسه بكلمتين : غاني قاسم ، ثم يضيف : لبناني الأصل . رحّب المدير به بابتسامة عريضة خفّفت من شعوره بالحرج ، قال له المدير : مهما حدث عليك أن تعلم بأني أقدّرك وأحبك وأتمنّى لو كنت إبناً لي وأنا من كبار معجبيك ، لكن عليك أن تأتي غداً مع والدك إلى المدرسة .
في اليوم التالي دخل غاني مع والده إلى مكتب ألمدير ، جلسا وبدأ المدير الكلام قائلاً : غاني شخص جيّد محبوب من الجميع ومنّي شخصيّا ، لكنّه لا يستطيع أن يتابع دراسته عندنا ، نحن نريد طلاباً وليس نجوماً ، وجوده يسيء إلى أنظمة ألمدرسة وسير الدراسة فيها ، جميع ألأساتذة يعاملونه كنجم ، إن شعر بالنعاس في الصفّ يقولون له : نم يا عزيزي ، وإن جاع يقولون له : كُل يا عزيزي ، ألكثير من الفتيات أصابهن الإكتئاب لعدم إستطاعتهن الإستحواذ عليه ، ألكثير من الفتية يشعرون بأنهم مهمّشون بوجوده ، غيابه ألمستمر عن المدرسة لا نستطيع تغطيته إلى ما لا نهاية ، عندما ينزل إلى الملعب يتجمهر الطلاب حوله ، إبنك نجم وأنا شخصيّاً أتابع برنامجه وأستمع إلى أغنياته ، تستطيع أن تحضر له مدرساً خصوصياً إلى المنزل ، على كلّ حال لن يستطيع أن يتابع دراسته وهو يعمل في عدّة مهن ، أرجو المعذرة ولكن مستقبل مئات الطلاب أهم بكثير من مشاعرنا .
وِداع غاني مع أصدقائه ومدرّسيه كان حزيناً ، ودّعهم فرداً فرداً ، غادر المدرسة وهو يسير إلى الأمام وينظر إلى الوراء طلب من والده أن ينتظر دقيقة واحدة ، حمل طابة الباسكيت ورماها في السلّة ليسجّل هدفاً للمرّة الأخيرة ثمّ تابع سيره ، قال لوالده : هل أخطأت بكوني نجماً ؟ أجابه والده : لا أبداً ، أنا حزين من أجلِك ، أخاف أن أكون قد حرمتك من طفولتِك ، لا تستطيع أن تلعب أو أن تسير في الشارع دون أن يجتمع الناس حولك ، لكن أعدك في أن نمضي إجازاتك في بلدان لا يعرفك الناس فيها .
وهكذا كان ، كان يقفز ويلعب في برشلونة وهو مسرور جداً كأي ولد في عمره وقد عاد إليها مراراً .
ليلاً قال لي : لقد تركت المدرسة ، أجبته : هذا ليس بخبر جيّد ، كُنت أُريدك أن تتابع دراستك ، أجاب : لقد أجبروني ، لم أرد تركها ، لا يريدون نجماً بينهم ، إنها ضريبة الشهرة ، ألفن هو عملي ، أكسب المال لكي أسترجع إسمي ومنزلي ، ستفخر في المستقبل بأنك تعرفني وسوف يسمع الناس عن غاني قاسم كثيراً ، أجبته : أنا فخور بك منذ الآن ، نجاحك دليل ذكائك ، وإن لم تكن نجماً سوف أفخر بك أيضاً .
بعد فترة قصيرة توفيّت جدّته التي كان على إتصال دائم معها ، أخبروه بأنه قد ورث
الشقة التي كانت تسكنها ، وكلبها ، في جنازتها كان حزيناً ، بالرغم من ابتعاده عنها بسبب عمله إلا أنها كانت ما تبقّى من أثر والدته ، ندِم لأنه لم يعطها الكثير من وقته ، لكن صحّتها الضعيفة كانت السبب وإلا لسافرت معه في إجازاته . بعد الدفن ذهب إلى الشقّة ، أخذ الكلب وأقفل الباب ولم يعد أبداً إليها .
في الصيف كان عند الشركة التي يعمل فيها عرضاً في برلين ، كان فرحاً ، أخبرني عدّة مرّات بأنه سيرى والده وشقيقه الأصغر ، كان قد أرسل دعوة لوالده وزوجة والده لحضور العرض .
إفتتح العرض غاني بأغنية ، ثم بدأ العرض ، بعد العرض عانق والده وشقيقه طويلاً ، سألت زوجة عادل زوجها ، من هو هذا الفتى ، ولماذا يحبّك ويحبّ إبننا هكذا ؟ أجابها : إنّه إبن صديق عزيز وقد ترعرع قرب منزلي ، أجابته : لم أفهم حديثكما بالعربية ولكن كلمة بابا ألا تعني أبي ؟ أجابها أجل ، ولكنها تُقال أيضاً للتحبّب أو التقرّب من شخص أكبر سنّاً .
إتفق عادل مع إبنه أن ينزل في منزلهم هذه الأيام ألثلاث ، كانت أياماً من أجمل الأيّام في حياة غاني ، لقد شاهد والده ولعب مع شقيقه ، غادرت ألفرقة لكن غاني جدّد إقامته لأربعة أيام ، بعدها ذهب مباشرة إلى باريس للعمل ، ثم عاد إلى موسكو .
بعدها أرسل دعوة لوالده لزياته في موسكو ، كانت فُرصة ثانية لكي يراهم ، كان سعيداً بوجودهم حوله ، كان شقيقه فرحاً بامتطاء الكلب الكبير ، كلب جدّة غاني .
بدأ غاني يزداد شهرة ومالاً ، سفر ، حفلات ، تصوير ، فجأةً إنتكس صحيّاً فأُدخل إلى المستشفى ، نتيجة الفحوصات لم تكن جيّدة ، كان عليه ملازمة المستشفى ، برنامجه توقّف لأسبوع ، ثم إقترح غاني أن يكون كرللا هو من يدير البرنامج في غيابه ، كان كرللا قد زاره في المستشفى مع فرقته وهم يحملون باقاتٍ من الوردِ . إتصل غاني بوالده في ألمانيا وقال له بأنه مريض ، أجاب والده : ستصحّ قريباً وأعدك بأن أزورك بعد أشهر ، طلب الكلام مع شقيقه ، قال له شقيقه : أريد أن أسمع أغنية "ماما" ، وكانت هذه الأغنية قد لاقت رواجاً في روسيا ، أجابه غاني : هذه الأغنية صاخبة وصوتي ضعيف ، سأغنيها لك بعد أن أشفى ، قال له شقيقه : إذاً غنّي لي ( ميليا تي مايا ) غناها له غاني وسُرّ بذلك شقيقه .
تدهورت صحّة غاني ، زاره في المستشفى الكثير من الشخصيات الكبيرة أبرزها فلاديمير بوتن . قال له بوتين : أيها الشاب الصغير يجب أن تتعافى بسرعة ، بلدك تحتاجك ، أجابه غاني : سيادة ألرئيس ، لقد علمت أن صوتك في الغناء جميل ، مع أن برنامجي هو للمراهقين إلا أنّي أود أن أستضيفك فيه ، قال بوتن بعد أن رفع يده اليمنى ممازحا كأنه يؤدي القسم: أعدك عندما تتعافى سأكون ضيفاً على برنامجك .
قال لوالدته بالتبنّي : ها هي أمي أنا أراها ، قالت له أين ؟ أجاب : ألا تسمعين صوتها تغنّي لي أغنية ما قبل النوم ( ينام المُتعبون واللعب والكُتب تنام ) دمِعت أعين والدته ، أخفت دموعها بنظارتها السوداء ، لقد علِمت بأنه يُفارق الحياة . لم يُكتب ل غاني الحياة أو العذاب ، لقد أسلم الروح سريعاً .
إتصل والداه بالتبني بوالده في ألمانيا ، صُدِم والده من الخبر، ثم وضع السماعة وبدأ يبكي ، سألته زوجته بلهفة : ماذا حدث ؟ أجابها مات غاني ، قالت : أتبكي من أجل غاني تسيباييف ، قال لا ، أبكي من أجل غاني قاسم ، أبني .
في اليوم التالي سافر عادل وزوجته وإبنهما إلى موسكو لتقبّل ألتعازي ، كلّ ما كان أحدهم يردد إسم غاني ، كان الصغير يجول بنظره بحثاً عنه ، فهو لا يفهم أيّ كلمة كانت تُقال باللغة الروسية ، لكنّه كان يفهم جيّداً إسم غاني . سأل الصغير والده : ألن نرى غاني ؟ أجابه الوالد : سنجتمع به يوما ما ، نحن سنعيش في قلبه ، وهو سيعيش في قلوبنا .
في اليوم التالي تكلّم والد غاني بالتبني مع عادل قائلاً له : لقد ترك غاني ثروة وشقّة في موسكو ، إنهما من حقّ شقيقه الأصغر ، أجاب عادل : ألثروة والشقة من حقكما فأنتما من تبنياه عندما كان وحيداً ، أجابت أم غاني : نحن شاكران لك لأنّك أنجبته ولأننا أمضينا أجمل أوقاتنا معه ، لن نرث إبننا ، لدينا الكثير من المال ، ألأبناء يرثون الآباء وليس العكس ، إجرءآت نقل ملكية الشقة ستتم اليوم ، عليكم أن تفتحوا حساباً للصغير في ألمانيا ونحن سنرسل المال إلى هذا الحساب .
إمتلأ مدخل المبنى حيث كان غاني يسكن بالورود ، ألجسر المؤدي إلى منزله إمتلأ أيضاً بالورود ، باقات ورد أتت من الكثيرين من النجوم الذين إستضافهم في برنامجه ، رثاه كرللا فلاد على التلفزيون بكلمات أبكت الملايين أنهاها بعبارة : أخي غاني لقد كان عليّ أن أغار منك لأنك الفنان الشامل ولأنك الأفضل .
أكبر باقة ورد أتت من الكرملين ، إلى التعازي أتى بوتين ولأوّل مرّة شوهد بوتين يبكي .
كانت الساعة قد تجاوزت السابعة في تلك القرية الجنوبية ، خيوط الشمس الذهبية تتمسّك ببقايا النهار قبل أن يبتلعها البحر ، إنها المسافة الفاصلة بين نهاية النهار وبداية الليل ، عندما كان فتية لا يزالون يلعبون الطابة في أزقّتها ، فتية كانوا يوماً أصدقاءً ل غاني قاسم ، فتية لا يعلمون بأن صديقهم كان قد أصبح نجماً يحلم ، يحلم بالعودة إلى قريته ، يحلم بالعودة إليهم ، لكنه قبل أن يحقّق حلمه مات تحت إسمٍ مستعار في بلد غريبة ، خيالهم لم يغب يوماً عن ذاكرته ، وأزقة قريته عاشت في قلبه ووجدانه .
بعض ألناس يتركون أثراً لا يُمحى ، بصمةً لا يُمكِنُ إزالتها ، عند إشتداد ألظلام ينتقلون بنا إلى عالم ألنور . هذا هو غاني قاسم . نفتقِدُكَ جميعاً .
( تمّت
الدكتور . مؤنس بدرالدين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق