..................
عبده داود
.................
صدفة غريبة
قصة كتبها: عبده داود
تموز 2021
قلت لخطيبي بأنني أرغب بحضور فلم سينمائي للمخرج غودار الفرنسي، وقلت له بانني قبل ذهابي الى عملي المسائي سأشتري بطاقتين متجاورتين، وسأترك لك واحدة عند بائعة التذاكر صديقتي، وسأكتب عليها جورج، وبعدما تنهي عملك في العيادة وافيني الى السينما...
أنا لم أكن متأكدة بأنه سيحضر إلى السينما، عيادته دائما ملئ بمرضى الاسنان، دكتور ناجح، شاطر جدا، ويكسب الكثير...
أنا كنت حينها في السنة الثالثة في كلية الدراما والمسرح، اختصاص اخراج مسرحي وسينمائي...
كم حسدوني الناس عندما خطبني هذا الدكتور الأسطورة، لقطة ثمينة تتمناها جميع بنات البلد...
لا أخفاكم، في البداية كنت فرحة جداً، جورج عنده جميع المواصفات الجيدة. لكنه يعيش بين الأسنان ليل نهار يسحب أعصابها ويعالج أوجاعها...
كان هو يعشق مهنته، بينما أنا كنت أحرص ألا اسمع حديثه لأنني بصراحة كنت اتقزز من تلك الأحاديث...
لم يكن عنده أي اهتمامات في دراستي أو في الأعمال الدرامية، لم يحضر فلماً واحداً أو مسرحية واحدة غير تلك العروض التي كنت أنا اصحبه اليها، وهو كان يأتي معي على مضض، وكثيرا ما كان ينام أثناء العرض...
ذلك اليوم، خطيبي ذهب إلى عيادته، وأنا مررت على دار السينما واشتريت بطاقتين، وأودعت بطاقة جورج عند صديقتي بائعة التذاكر.
عدت من عملي، ودخلت الى صالة السينما. وخطيبي لم يحضر بعد، ربما سيتأخر، أو ربما لا يحضر البتة.
خلال العرض تفاجأت عندما جاء شاب غريب لا أعرفه، وجلس بالمقعد المحجوز بجانبي لخطيبي.
كنت أسرق النظر اليه ربما أعرفه هل هو أحد أصدقاء خطيبي، أو أحد اقاربه. وكنت الاحظ بان الشاب كان ينظر إليّ، لكنه لم يكلمني.
تابعت مشاهدة الفلم وأنا كلي حيرة... وتساؤلات كثيرة دارت في رأسي ولم أجد لها جواباً...
عندما، أضيئت الأنوار، تأمل الشاب بوجهي وتأملت أنا بوجهه، وكلانا يملؤنا الاستغراب، من يكون الآخر...
قال الشاب: شكرا جزيلاً على البطاقة، ولكن أرجوك اسمحي السؤال: هل أنا أعرفك؟ ولماذا حجزتي لي مقعداً بجانبك؟ ومن أدراك بأنني سأحضر اليوم إلى السينما؟ من تكونين أنت، وتدعين بأنك خطيبتي؟
تأملته بتمعن أحاول أن أفهم ماذا يدور حولي، أو هل اجتمعنا يوما في مكان أو زمان ما؟ ولماذا جورج خطيبي أرسله عوضاً عنه؟؟؟ شاب يبدو وسيماً، لبقاً، انيقاً، يتكلم بلطف وتهذيب ورقي...
قلت: أنا أخبرت بائعة التذاكر بأن تعطي البطاقة الى خطيبي الدكتور جورج. وأنا مستغربة لماذا أعطتك تذكرته؟
قال الشاب: آه، الآن فهمت خطيبك أسمه جورج، يا آنسة أنا أيضاً اسمي جورج... عندما وصلت كانت البطاقات قد نفذت، قلت لبائعة البطاقات، هل لديك بطاقة لأخيك جورج؟ كانت هي تتكلم بموبايلها، ولم ترد على اسئلتي أعطتني البطاقة وقالت خطيبتك سبقتك إلى الداخل، وكانت تشير لي بالدخول، وهذا ما حصل...أرجوك سامحيني لم افهم الموضوع في البداية، أخرج الشاب نقودا ليعطيني ثمن التذكرة، لكنني رفضت وهممت بالخروج.
قال الشاب بلهجة ودودة، إذا لم يكن لديك مانعاً، اود أن أدعوك الى احتساء قدح قهوة هنا في مقهى السينما، تعبيراً عن هذه الصدفة الجميلة؟ ورب صدفة خير من ألف ميعاد.
رفضت الدعوة قطعياً بذهني، وقلت هذا مستحيل، لكنني تراجعت وقبلت الدعوة، وقلت لا بد خطيبي سيحضر ليرجعني الى المنزل، سأنتظره بعض الوقت... واخترت طاولة خلف الزجاج تكشف الداخلين إلى مقهى السينما.
تعارفنا، قلت له أنا طالبة سينما ومسرح، وأنا اعشق السينما. والأفلام الملتزمة والهادفة.
وهو أخبرني بأنه أستاذ موسيقى، وعاشق الفنون عموماً وفن، الرسم خصوصاً...
دارت احاديثنا عن الفن والفنانين، ورسالة الفن، وروعة الفن، حديث ممتع جعلنا نسترسل طويلاً...
تكلمنا عن المخرجين، والممثلين، والتصوير، والسيناريو والحوار، والموسيقى المرافقة للفلم، وعن المسرح وعن الرسم ومعارض الرسم والرسامين وطال الحديث الممتع والشيق، وطالت الجلسة وكلانا استمتع بحديث أطرب قلبه...
فجأة رن هاتفي (الموبايل)، كان خطيبي، سألني أين أنت؟ قلت: أنا لا أزال أنتظرك في مقهى السينما. لكنك لماذا أنت لم تحضر للسينما؟
قال: حضرت وكان شباك التذاكر مغلقاً، وقالوا بأن بائعة التذاكر خرجت ولا أحد يدري عن البطاقة المحجوزة... قلت حسناً، سنلتقي غداً.
لا أخفاكم أصدقائي، اثناء جلسة التعارف تلك، كنت أقارن بين خطيبي جورج دكتور الاسنان، وبين جورج هذا الغريب أستاذ الموسيقى... وكنت أقول مسكين خطيبي بعيد عن الفن والجمال، يحدثني عن خلع الاسنان، وعن زرعها وتعويضها، وعن سحب الأعصاب، وتحشية الأقنية، قصص مملة متكررة لا تنتهي اسمعها كل يوم...وتتعبني تلك الأحاديث، بينما هذا الشخص يحدثني عن اهتماماتي ويشاركني روحي وأفكاري...شخص غريب يسرق قلبي من أول لقاء...
نهضت معتذرة: وقلت لقد تأخرت، ويجب أن أعود للمنزل.
قال الأستاذ: أتمنى أن نلتقي مرة أخرى، صدقا وبصراح لم اصادف يوماً فرصة اسعدتني، كما أسعدني هذا اللقاء اليوم...
قلت: أنا أيضاَ لم يسعدني حواراً شيقاً يحاكي مشاعري واحاسيسي كما حصل معي اليوم.
قال الأستاذ: يوم الأحد المقبل سوف يستبدلون هذا الفلم وسوف يعرضون آخر فلم أخرجه المخرج الإيطالي بازوليني، ويهمني سماع الموسيقى المرافقة، كتبت عنها الصحافة الكثير، أتمنى أن نحضره سوية حتى نستمتع به معاً، سوف أقطع تذكرتين واحدة لي، والثانية سأتركها عند قاطعة التذاكر مكتوب عليها اسمك...
ضحكنا وافترقنا.
هكذا، وضع الأستاذ جورج الكرة في ملعبي وجعلني أعيش فوضى فكرية عارمة، هل أذهب يوم الأحد الى السينما، أم أتناسى الأمر برمته...
ذهابي يعنى خيانة خطيبي، وإذا صارحته بالأمر، من غير الممكن، أن يتقبل فكرة الصداقة مع شخص عرفته بالصدفة، لكنني كنت مندفعة على الذهاب بكل كياني ولقاء الأستاذ الذي سحرني، ولكن هذا بالتأكيد يعني فسخ خطوبتي من الدكتور خطيبي.
يوم الموعد، وصل الصراع في فكري الى الذروة، هل أذهب أم أهمل وأتناسى... خلعت محبسي من اصبعي.
وهذا يعني خلعت خطيبي من حياتي.
خلعت عالم الأسنان من حياتي، التي لا تعنيني لا من قريب، ولا من بعيد، واستعضت عنها بعالم الفن والموسيقى والأدب...
في السينما كان اللقاء حاراً، وصرح كلانا للآخر عن اعجابه بالآخر. وكان السؤال الذي أنهي جميع الإشكالات... سألني الأستاذ لو تقدمت لخطوبتك ماذا يكون موقفك؟
قلت رغم إنني محسودة من زميلاتي على خطوبتي... لكن المشكلة لم أعد أحتمل أحاديثه، هو يفهم مهنته جيداً، ولكنه لا يفهمني، كل منا يعيش في عالم مختلف...
بينما أنت جعلتني أعيش في أجواء تطرب نفسي واحاسيسي، وتبتهج لها روحي...
عندما عدت الى المنزل في ذلك المساء سألتني أمي
أكنت مع خطيبك جورج؟ لماذا لم يأتي هو معك كالعادة.
قلت متلعثمة، لا يا أمي لم أكن مع دكتور الأسنان جورج، كنت مع خطيبي أستاذ الفنون جورج...
إلى القاء بقصة جديدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق