الخميس، 3 يونيو 2021

 ................


Abou Wejdene
.......................



‏٢٤‏ د ·
تمت المشاركة مع العامة
ديالكتيّة الذات والحياة في شعر الصادق شرف
أبو وجدان
كثيرا ما تتشظّى الصورة الشعريّة في قصائد أبي وجدان ببنيتها القلقة ، المتوترة التي لا تحدها حدود ولا تخضع لناموس الشعر المنتظم ، المنمّق بل تتجاوزه إلى فوضى الأسطر وفوضى الكلمات والرموز والصور تبعا لنفسيته القلقة من خلال "الفنتازية العبثية "التي تخرق المألوف متحولة ، متنافرة تخلق متشابهاتها على المختلف ، الديالكتيكي ، الجدلي ، الاصطخابي ، المتصارع انفعالا وفعلا كما قال في كتابه "عالم بلا اعراب " " عندما أكون بصدد كتابة القصيدة تنتابني هموم المخاض السهل أو الصعب ، حتى إذا انهيت كتابتها أشعر بأني أنجبت مولودا أحبه لأنه جزء مني وقد لا يحبّني لأني لست جزء منه " يؤسس الشاعر مثيرات قصائده على دينامية الأضداد وتراكمها في الدفقة الشعرية
وعلى إيقاعها المتنافر يتجلى هذا المظهر المشحون بالتوتر والانفعال الجدلي في ديوانه " أجري ورجلي في يدي في قصيدته فيكم أنا أسست رجوعي الصفحة الثالثة والستين :
" بعد خمس ، بعد عشر بعد عشرين وأكثر أو أقل
عندما تسقطني الدارة من قوس الأمل
سوف اجري دائرا في ردهة خضراء محزوم المتاع
خلف برد الصمت كنتم / خلف برد الصمت انتم
شجرا مازال منشور الشراع
وأنا عشب أراني عطشا ان متّ لن أترك جثمانا كريها
شبهي يحملني وحدي وما كنت لهذا " الوحد" في اللّحد شبيها"
ابو وجدان يمفصل ايقاع صوره بالانتهاك التعبيري القائم على ديالكتيك التنافر والتفاعل يقول في قصيدته " الموت عادة سيئة ":
راجعة للضعف كل قوة
وخلف كل قمة هناك الف هوة
تجيء كلّ فرحة ملفوفة في فاجعة
ومنك كل صرخة الى صداها راجعة
وراجع انت الى المضاجعة
تضاجع التراب لكن ...في اتساع الكوّة
علام انت متّ كي تقلّد الأبوة
ام انت مت كي تفجر العبوة ؟؟"
تتأسس الرؤية الشعرية في هذا النص على ثنائيات ضدية تفجرها الصور الشعرية على امتدادها المكثف في القصيد مراوحة بين الايحاء والاثارة والترميز وبين التفصيل والتقريب والاطناب كما في الثنائيات التالية : الضعف / القوة ، القمة / الهوة ، فرحة / فاجعة ، وهكذا يمركز الشاعر الدلالات على تضاد مفعِّل للمشهد الشعري بين قوة وعظمة وانبعاث وحياة وبين ضعف وهوان وتراب وموت لتقوم جلّ نصوصه على مثل هذه الثنائيات غربة نفسية واغتراب روحي ومنفى وجودي يقابلها حلم بعودة وطن مجيد وايمانا بقضيّة مقدّسة منوطة بعهدته لعل قوله التالي يلخص ما قلته :
"كلّ الدموع دمعتان واثنتان في الوجود
فدمعة تسيل للفنا
ودمعة تسيل للخلود "
من منظور نصّي نقول : ان الشاعر ابا وجدان استطاع ان يبلور تجربته باعتماده على تقنية التراكم اللفظي والمشهدي ممّا جعل قصائده مكثفة الرؤى ، متنوعة الدلالات والمدلولات تنفتح على الديلكتيكي والجدلي والاستثنائي وتتقمص المدهش والمثير والمستفزّ فنصوصه في حراك دائم وتالف دلالي عجيب لذا تظلّ حمّالة معاني تجسيدا وتجريدا وايحاء وخصوبة جمالية ولذّة فنيّة بلغة متشظية وفرادة مصوّرة للحالة والمشهد .
لغة أبو وجدان وانكسار النسق وتشظّي المشهد :
لقد كسرت القصيدة لدى أبي وجدان النسق الثابت وانطلقت في فضاء أرحب ،فضاء ممتدّ ،عام مفتوح على كمّ هائل من الانتهاكات والمجاوزات والتجاوزات بمعنى اخر اصبحت القصيدة لديه منفلتة ،متشظية ،منحرفة باحتراف متباعدة كسرت العادة والمعتاد تركيبا وصياغة ، صورا ومقاصد ، مبنى ومعنى ومدلولات وما وراءها من اسقاطات نفسية / ذهنية / روحية وأمثّل بذلك بقوله :
في قصيدته " متعب قلبي " من ديوانه " ابو وجدان وطن قبلته الشعر الجزء الثاني بالصفحة الثالثة والثلاثين :
"متعب قلبي بأوجاع قلوب
تعبتْ مما تريد ...
انما للشمس اذا حان الغروب
هم يقولون لها :" هل من مزيد ؟"
ويقولون لوجه الوجد : ما هذا الشحوب ؟
خلف وجدان بعيد .................
ما بكى حيّ على ميّت ولكن ........
دوره ات لهذا هو باكن ....."
هذا التشظي وانكسار النسق يظهر كذلك في توتر الصورة في قصيدته " أنزلتُ القمر" من نفس الديوان:
" لستُ شيطانا ولا انت ملاك من تسابيح القدر
ما الذي يجمعنا ؟
لا شيء غير الحبّ او نحن حجر ...
بيننا الفارق أنّي أشتهي أن أتعرّى للقمر
فأنا لا أستحي منه وفي ضوئه دققت النظر
فاستحى منّي ولكن ما استحى
لو ما انتمى وجدانه نحو البشر..
نلحظ التشظي والازدواج في هذه القصيدة وغيرها من القصائد ليكسر ابو وجدان النسق مضخما ذاته فهو لا يستحي من القمر امام ضعف وقلة حيلة الاخر تضخم الانا الشاعرة يكسر اليأس والضعف والاستسلام واللاجدوى والخنوع فهو الذي أنزل القمر :
"فاذا لم تستطيعي الردم خوفا من تضاريس البشر
قمت بالردم ولو يأبى القدر
واذا لم تكف للردم نجوم الليل
أنزلت القمر "
اللغة وقلق الصورة لدى أبي وجدان
يخترق ابو وجدان أفق الخيال الى التخييل بمشاهد تقوم على الانتهاك المسكون بالقلق والتوتر النفسييّن يقول :
" لا تفارقني فاني بالفراق
شمعة قد بدات في الاحتراق
أفلا يبكيك اني صرت شمعة
لم اعد اهفو
الى اية لوعة
بعدها ما عاد يحلو ميلادي للعناق "
ابو وجدان مسكون بالقلق النفسي الذي يصل الى حافة الهذيان ليترك النص مفتوحا على كلّ الاحتمالات والتأويلات يقول على صفحته الرسمية على الفيسبوك " السجع في الخطاب والقافية في الشعر العربيين كانا سببا هاما في تخلّف منطق الحوار الحضاري في المجتمعات العربية"
اللغة وجسارة وفرادة النصوص عند الشاعر
ظاهرة التكرار التراكمي على شكل ثوابت في جلّ نصوص ابي وجدان هل هي اعتباطية ؟ هل هي متعمدة ، مقصودة ؟ هل هي خادمة لمدلولاتها ؟ أم هي رجع صدى لنفسيته المأزومة وصراخ على الورق ؟
ما من شكّ في ان نصوص الصادق شرف وتجربته الشعرية تثيرنا منذ القراءة الاولى هل لأنها حاكت دواخلنا ؟ ام لأنها شغلت حيزا من وجودنا النفسي والروحي والفكري والعقائدي ؟ام لأنها وسعّت رؤيتنا لنرى الواقع بعين ناقدة لا مستسلمة ولا مسالمة ، هي عين الحقيقة التي بحث عنها ولم يدركها ؟
أن إثارة الأسلوب لا تتحقق بلا توهّج الرؤيا، وخصوصيّة الأداة الشعرية فالشاعر " شرف " عبر أدواته الشعرية المبتكرة كظاهرة التكرار يتتبّع ويتعقّب اللّغة في تركيباتها التعبيرية، ومعطياتها الأسلوبية؛ ليكشف من خلالها عن شعريته، ومدى سموقه الفني بخصوصية الأداة، والأسلوب من حيث العمق، والإحساس، والتكامل الفني يقول :
" للــصَّـخــر قلب حجَر لو نشتكي
للصخر يغدو قلبُه طمطومَــهْ
للبلبل الصداح لو نشكو
لصار البلبلُ الصداحُ بومَــهْ
للناي لو نشكو
لصار النايُ من احزاننا قادومَــهْ
للروم يا لو نشتكي
لاحترقتْ ثانية من الشكاوى رومَــهْ"
قيمة التكرار هنا تتلخص في وظيفتين: أولاهما شكلية / ايقاعية لخلق الحركة الايقاعية داخل النص الشعري فالقصيدة ميمية مشبع بالهاء الساكنة فلو تحركت هذه الهاء لضاع القصيدة مقفاة موزونة وثانيهما الوظيفة النفعيّة ودور التكرار في ايصال المعنى والكشف عن مقاصد الشاعر ابي وجدان وهو يخاطب الصخر ويشتكي وتكررت لفظة الصخر مرتين قصدا وعمدا منه وفعل صار مرتين ايضا متلبسا بنفسيته المأزومة ثم حرف الشرط " لو" الذي يفيد التعليق في الماضي أو المستقبل ، يُستعمل في الامتناع أو في غير الإمكان
والحقيقة أنّ من يقلّب صفحات دواين ابو وجدان يلحظ ان ظاهرة التكرار فيها شكّل ملمحا أسلوبيّا بارزا يحمل ابعاد دلالية عميقة و قد استوقفني في هذه التكرارات هذا المثال الطريف :
"ولمياء الشفاه على شفاهي تستبدّو
الى ان جاش لاستبدادها نهد ونهدو
وقالا لي : " حذار لها جيوش لا تردوّ
فقلت ولي من التحصين برج لا يهدّو
ولو بالطّائرات فعندنا للضدّ ضدّو "
تكررت الكلمات هنا " الشّفاه " النّهد " الضدّ وهذا اللون من التكرار لا يمنح القصيد النغم فحسب بل يمنحها امتدادا وتناميا في قالب انفعالي متصاعد كثيرا ما نجده في مفاصل نصوص ابي وجدان
كقوله في قصيدته " اناملنا تتحدّى الاشواك " من ديوانه " تونس ويوفا الكلام "
هلاّ وضع الورد لطول الشوك وقسوته حدّا ؟
فلماذا الشّوك تغوّل في تونس طولا بل وعدّا
لو ما شاء ذباب الغصن الأخضر أن يسودّا
لكنّ الخضراء ستبقى خضراء ،ولن تصبح جردا "
القصيدة بشكل عام تكشف خبيئة الشاعر الموزعة بين الرضا والسخط ، بين الحلم والواقع عبَّر من خلالها عن مكنونات النفس الضالّة في متاهات الغربة الجسدية والنفسية فكان ناكصا معبرا عن حلمه الكبير / حلمه العظيم : تونس .
الأسئلة وتكثيف مدلولها في شعرية ابي وجدان
يؤسّس ابو وجدان قصائده على مثيرات مكثّفة فأسلوب الاستفهام في شعره يهدينا الى مجريات تنظيمه في سياقات خاصة،وبعد تفحص النماذج التي ورد فيها هذا الأسلوب،وجدنا ان استفهاماته وباختلافها أ،من،أين،كم،كيف،متى،هل"،وهذا يقودنا الى القول ان سياق النصّ في شعره قد تأطّر وابتعد عن الاداة غير المذكورة او الاستفهام غير المباشر فهو لايتخفى وراء ستر الايهام عن طريق باب مغلق وانما دائم الطلب وبصيغة معلومة يقول :في ديوانه : والشعراء يتبعهم العشاق :
"لماذا الحبّ يستفزّني ؟
احببتك لكنك انت تبالغ في استفزازي
هل انت مريدي ؟ ام مغتصبي ؟ ضيفي ؟ ام غازي ؟
أتريدُ استعماري بعد ان استوليت على احوازي ؟
أتحاصرُ عاصمتي بجيوش من مستشفى الرازي ؟ "
وفضلا عن ذلك فان الصيغ الاستفهامية الواردة في نصوص "ابي وجدان" قد خرجت من مواضعات السياق الاخباري الطلبي من حيث انتظار الإجابة عن سؤاله الى معانٍ مجازية لدلالة مقصودة يوحي بها سياق الكلام فهو عموما لايطلب فهماً او استخبارا لانه العالم بكليات الأمور في مقاصده ودلالاتها او جزئياتها،واذا ما استفهم فليس جهلا بأمر او طلب لمعرفة وانما لمزيد الاقناع وايصال المقصد والمعنى المراد واثارة القارئ واستفزاز قدرات فهمه واشراكه في التفكير وكثيرة هي المعاني التي خرج عليها الاستفهام في شعره محقّقا انزياحا عن وظيفته الأصلية بالتحول من غرضها التقليدي المعروف"الاستفهام"الى غرض آخر،مايوجد تبديلا في صيغه مولدا الفاعلية الشعرية للنصّ وهو : الانكار أي الاستفهام الانكاريّ :
في منبع الحب أنا أدليت دلوي "
ثم أخرجته خلوا من مياه .. فبماذا سأروّي ؟
عطش العمر وعمري لم يزل يروي ويروي
لك ما عشته من عشق بلا أي تروّي"
يخرج الاستفهام عن اطار الوظيفة الأصلية له متحولا من البحث عن الإجابة الى استنكار الأمر بصيغة استفهامية يفهم أنها تحولت الى الاستنكار من خلال الجملة التي تلت هذا الأستفهام،وهي جملة اخبارية يقينية كقوله : في قصيدته " اليوم الاول لردم الحب " مستنكرا متسائلا :
كلنا واحسرتي للموت جئنا كالقطيع
واحدا يعقبه الاخر للموت السريع
بين صيف وشتاء وخريف وربيع
أكذا نمضي ؟؟
لماذا فرغت منّا المساكن ؟؟
ولماذا يفزع الحب الى الدمع الصبيب ؟؟
فاذا نحن حبيب بدم يبكي حبيب ."
حرقة السؤال والحاحه على نفسية الشاعر فكلّ استفهام يحمل مدلولا مناقضا للاخر او منفصلا دلاليا عنه دلالة على التشظي والقلق والارتكاس النفسي الذي تعانيه الذات الشاعرة وهذا ما يمنح القصيدة وهجا حسيا انفعاليا تتجاوز مستوى الاحاسيس الجزئية الى المعاني الذهنية العميقة التي تستغرق في المدلولات بأكملها .
السرد الشعري المباشر/ البسيط / المبتذل لدى أبي وجدان
يكثّف أبو وجدان تراكيبه الشعريّة على مفردات بسيطة ، سهلة غير متغوّرة في رحم الكلمات ومداليلها المستعصية فيعتمد متعمّدا الاسلوب الباهت الاقرب الى الخطاب اليومي المباشر الذي يرتكز على الحركة والفعل دون تعميق كما في قوله في قصيدته " بالفلاقي " من الديوان " انا للحب وانا اليه راجعون " :
أنا دخلت شعرنا الفصيح بالفلاقي
تونستُهُ كامرأة نازحة من الحنان للعناق
في ليلة الزفاف لا ادخلها بالواقي
لأنني اريد ان احبلها بالراقي ...
ولا رقيّ للفصيح حين لا يلاقي
من شعبنا ، بكلّ ما في الحب من اشواق "
تأتي الصورة لديه منسابة دون اصطناع او تكلّف وكأن وميض العاطفة يقودها ويفكّ جماحها لتبقى رغم بساطة كلماتها ذات مرجعية وحراك دلالي مستمرّ لتكشف عن رؤى مكثفة في المشهد الشعري لدى الصادق شرف ناهيك عن قدرتها على استفزاز القارئ وتمفصلها الشعري على الجدلي ، الصاخب ، المثير واللامتداول ، محققا تميزا فنيا متفرّدا واسلوب ديالكتيكي ، جدلي جديد وهذا التبسيط والمباشرتية في نصوصه يتبدّى كثيرا وغزيرا حين يقول : في قصيدته " مزيانة "
تلومني صارخة كم مغرم انت بها
وكم لديك عندها مكانه ؟
وانت قلت : لم احبَّ في حياتي امراة ذبأنة
أجبتها : نعم نعم عرفتها عفوية
وليس قهرمانة
لذلك قد احببتها مزيانة
كتونس المزيانة "
مرجعية ابو وجدان مبتكرة من خلال اقتناص وتقمّص تعبير شعري جديد واليات فنية مثيرة تعتمد فواصل شعرية مكثفة تنتقل بالصور من حيز التخيل البسيط الى التخييل الشعري العميق فحين يقول في قصيدة " انت تناديني يا حبّي " : من ديوانه " للحب تغني العصافير"
"والتوبة تنهاني عنكِ ولو قلت فلا لبيك ولبيها
فأنا كذاب كذاب
لو قلت حقولي العطشى
لا تحتاج الى امطار برشى
من غيم يسكن في عينيها
فانا كذاب كذاب "
انّ الشاعر المُجيد هو الذي يمتلك القدرة على ايصال قصائده الى المتلقي من دون المرور الى صعاب او عراقيل او تعقيدات كبيرة فالبساطة والاصابة المباشرة للمعنى تقرّب الشاعر من نصّه ومن المتلقي لنصّه دون تعقيد وابهام والتواء متكلف فتتوارى الدلالة تواريا فنّيا لا يُعجزُ المتلقي ولا يرهقه بقدر ما يؤنسه ويمتعه .
انّ مسألة البساطة والتعقيد عند الشاعر ابي وجدان ليست مسألة تأييد او رفض بقدر ماهي معالجة لقدرة فنيّة يمتلكها الشاعر وعليه ان يوجهها في ظلّ اطار معيّن فيأتي نصّه واضحا ، شفيفا بدون حجاب او يأتي موشحا بحجاب يشفّ عمّا تحته .
ابو وجدان يحرص على تحقيق البساطة والابتعاد عن التعقيد وهو أمر مهمّ جدا في نظره لتحقيق غايته وهي الافهام وايصال الصورة جليّة ، مكشوفة ان قصد العامة او الخاصة وهنا يمكن ان نصنف شعر ابو وجدان صنفين الاول نثري عقلي اجتماعي نفعي في اكثر احواله فهو حريّ ان يعجّل فيه بالمعنى ليؤدي وظيفته دون ابطاء والصنف الثاني من نصوصه شعري وجداني نفسي ،ابداعي فهو حريّ ان يمارس فيه لعبة مجادبة المعنى لتتنتهي الى كشفه وايصاله للمتلقي .
فالشاعر يدرك جيدا أهمية اللغة بماهي كائن حيّ متطورلهذا يترك للصورة الشعريّة فسحة كبيرة خشية ان يقع في فخّ التعقيد المرفوض فالدارس للتراث الادبي يجد من يتخذ الغموض ستارا ليخفي عجزه عن الابداع فاذا كان الوضوح ممكنا كان الغموض عجزا وهنا تتبدى لنا هذه الجدلية والديالكتيك الذي يتشكل في نصوص ابي وجدان : جدلية المعنى ودهشة المبنى .
جدليّة المعنى ودهشة المبنى في نصوص ابي وجدان
يسعى الشاعر إلى أن يدهش القارئ عبر تقنيات فنية كثيرة منها التكثيف والاختزال، التبئير والتوضيح ، التغوير والتبسيط ولا يحدد كل شيء في النص أي أنه يجعل النص لا يقول كل شيء،
ويترك فسحة من الفراغ ومساحات من الصمت ومواقع النفي واللاتحديد لكي يزاول القارئ مهامه، ويجتهد في البحث عن مضامين النص وجواهره اذ يعتمد نظاما تأشيريا مدهشا وكأنه بذلك يترك مسافة ومساحة جماليّة تحفز القارئ على حب الاستطلاع ولا شك في أن كتابة الكلمة متشظية وبشكل عمودي ينم عن رغبة الشاعر في إثارة انتباه القارئ إلى أهمية المدلول الذي تؤشر عليه الكلمة المنشطرة إلى شظايا متناثرة وأطراف مترامية، كما يبرز البعد التشكيلي والفنّي الذّي يميّز نصوصه مثال ذلك في قصيدته " اماه " وصياغتها بطريقة مبتكرة غير متكلفة :
أمّاهُ .. يا امـّـاهُ .. يا أمّاهو
يا رحمة بها .. يشملنا الإلاهــو
مدي يديك لي أجنحة الملاك
تلمسني أحسني كالنجم في سماك
أنامل الأماني تجوس في سريري
غطاء الصوف فوقي يصير كالحريري
في راحتيك دفء إذا مسحتِ رأسي
يعم كل جسمي يمتد عمق نفسي
أحس باطمئناني ياخذني إليكي
كأنني سماء تنصب في عينيكي
عيناك لي فضاء أرحب من رحيبي
حبيبتي يا أمـي .. أين أبي حبيبي ؟
يهمس لي وجداني بالكلمات الجارحهْ
يسألني : ـ لماذا لم يأت منذ البارحهْ ؟
تخفـين عني غربة علام يا أميمهْ ؟
وجوده عز لنا ..يشملنا كالخيمهْ
تتكرر ملفوظات شعرية بعينها تُحكم بناء النص الشعري وتمنحه نغمة موسيقية من خلال الإيقاع الذي تولده بين الفينة والأخرى، كما تتحقق انسجام أجزاء النص وتشد انتباه القارئ يقول :
أمتي واقفة هل تتلظى "
بين يأسي وانتظاري ؟
مثلما كنت طويلا أتلظى
بين ليلي ونهاري ..
لتوارى الله في خطوتها الأولى
بها أطفأ ناري
وتراءى في يقيني
جامعا بين يميني
ويساري
مثلما تجتمع اللحظة باللحظة في
عز انتصاري
لا على الآخر بل نصرا
على بدء انكساري
كان نصرا لم أصرفه مياها
في المجاري "
تظهر رغبة ابو وجدان في الإدهاش وذلك بخلخلة بعض الثوابت والمعايير والقواعد التي تَعوَّدَ عليها القارئ باعتماد تقنيات فنيّة مغايرة شكلا ومعنى، قصد استنبات مقومات فنية جديدة تنسجم مع الرؤيا الشعرية التي تصدر عنها نصوص دواوينه وتتناغم والمنظور الفكري للزمن الذي تعالجه وتواجه إكراهاته وتحدياته ومفارقاته، وذلك بإعادة تشكيل البياض، وطريقة توزيع السواد على الصفحة، والتقديم والتأخير، وتكسير الكلمة إلى حروف، واعتماد لغة تخلق الانزياح على مستويات متعددة، كل هذا وغيره كثير في نصوصه بما يعكسه من تصور وتصوير للواقع المرفوض، لأنه لا يحقق للذات أحلامها وأمانيها ومتطلباتها، إنه عالم مأزوم يعمّه الدمار والبؤس والريبة يقول :
ثقافة الموت : ــ لكنَّ سماءك ممطرة وطريقك مسدود مسدودْ
ثقافة الحياة : ــ ها أنت سماؤك صافية وطريقك مفتوح مفتوحْ
وعلى جنباته أزهار فائحة وتظل تفوحْ
ما دمت لها أنت الجسد الفنان وأنت الروحْ
قد جدت وجودك يشفي كل فؤاد مجروحْ
وشفاء الجرح به يفرح من كان ينوحْ
ونواحه كالسفح وفرحته جبل تعلوه صروحْ
أي جبال وجدت في الدنيا من غير سفوحْ ؟ ||
أيهما تختار ؟ ثقافة الموت ؟ أم ثقافة الحياة ؟
أطفالنا يختارون ثقافة الحياة فينشدون :
ــ نموتو نموتو \\ ويحيا البشكوطو "
القصيدة عند الشاعر الصادق شرف حلم جميل يراود الذات في لحظات النشوة فيخلق لديها الإحساس بالزهو والشعور بالمرح فيقتحم عالم الحرف ليحطم جدران الصمت ويقيم عالم القصيدة على دعائم الحب والخير والحق. وحدها القصيدة تقود إلى عالم الدهشة لأنها تعبر بالذات من العالم المألوف إلى العالم الحالم المأمول حيث تتخلص من الشوائب والعوائق والقيود التي تكبل طموحاتها ورؤاها وتفقدها توازنها النفسي وشوقها الروحي وتألقها الشعري، فتغدو القصيدة نورسة تنشد مواويل الحلم وتفتح أبواب البوح وتلج بالذات الشاعرة وبالقارئ عالم الصمت والدهشة لنقرأ هذا القصيد له :
سحر عينيك تصدى له زهوي \\ باشتهاء لم يذق مثله لهوي
أنت إن صدقتني يحتلني حبك من بابي لبهوي
فإذا كـــذَّبت .. فالمجتمع الكذاب قد أيقظ سهوي
عندها في منبع الحب أنا أدليت دلوي
ثم أخرجته خلوا من مياه .. فبماذا سأروّي ؟
عطش العمر وعمري لم يزل يروي ويروي
لك ما عشته من عشق بلا أي تروّي
لم يكن غير انفجارات تدوّي
في مساحات وجودي فـتسوي
كل ما كان بناء شا مخا جاوز علوي
فاستوى بالأرض ما قد كان يعلو عبر جوّي
كل ما كان بناء كان يهوي
لكن الأنقاض لن تمنعَـني خطوي فخطوي ..
نحو برج لم يهدمه ارتجاج كان يطوي
قلعة في اثر أخرى شيدوها فوق رخوي
إنما برجك أنت اليوم ما زال مضيئا ويضوّي
نفق العمر بدا لي منه ما قد كنت أنوي
إنه كوة ضوء لا تسدّيها بسهوي
عنك أسبوعا بلوم لا يقوي
وردة المشموم فالمشموم قد يطلق قروي
عندما تشتد في الوردة أشواك التلوي
فهو من قد قتل العشق وما زال يدوي
مثل صاروخ الهوى تطلقه ارضي لجوي
فالصواريخ التي قد سقطت كالكلب تعوي
لم تكن قد اسقطتها أمريكا ذات غزو
بل أنا اسقطتها بالحك ثم الدلك ثم الحشو
لم تكن نيئة بل بعد طبخ هادئ الجمر لطهوي
كل من ذاقته قالت : زده من مري لحلوي
وجع المر لذيذ ذاك ما الوردة قالته لسروي ..
أخري اللوم إلى ما بعد أن أدلي بدلوي
فإذا ما خرج الدلو بلا ماء ألا فلتـشكني أنت لعروي
26 \ 4 \ 2018
تمتد الذات الشاعرة عبر القصيدة لتقتحم عالم الآخر، وتجعله ينخرط في فضاء عالمها الشعري وزمانه المفعم بالحب والخصب والجمال ولكي تدبّ الحركية في القصيدة، وتعرف دينامية متواصلة
من خلال غلبة معجم الماء والعطش والارتواء والطبيعة والسحر والاشتهاء والهوى
وتأسيسا على هذه الاعتبارات وغيرها يغدو الإدهاش هو السمة الجمالية المميزة لنصوص الشاعر ابو وجدان صوتيا وتركيبيا ودلاليا وتداوليا وفي ارتكازها على طريقة تشكيل مثيرة لانتباه القارئ، في مختلف مقوماتها الفنية ومستوياتها التعبيرية وتجلياتها المقالية والمقامية يقول :
سألتك يا وطني .. وأظل أسائل لا أرعوي "
ـ أأنت ضعيفٌ ؟ وأقســم : ــ إنّك أنت القوي
هو الماء بالخشب اليوم عندك لا يستوي
أجبني بلا ! إن يكن خطرا ان تجــيــب بـوي
بماء الإجابة .. مهما يكن عطشي فأنا أرتوي
........................ ***** .......................
أجبني أيا وطني في الإجابة أرجوك لا تلتوِ
فإنّ التواءك لا يحتويني محال .. ولكنني أحتوي
بحبي لعينيك كل ضجيج مقيت .. وكل الدّوي
يُـمـهـمـش رأسي .. أحسُّ بأنيَ أصبحت غير سويّ
تُـشـقـلـبـني حيرتي .. بين قافـيـتـيـن أضعت الرويّ
إذا صرتُ أجهلُ .. أنت ضعيف تُرى ؟ أم قــويّ ؟"
النزعة الدرامية وظاهرة الحزن في شعر ابي وجدان
لقد كان الاسلوب الدرامي شائعا في نصوص الشاعر ابو وجدان من حيث توظيفه لشخصيات ، واحداث وصراع وحوار وغيره من العناصر والمقومات الدرامية ومن خلال هذا ارتأيتُ ان اسلّط الضوء في دراستي على النزعة الدرامية في دواوينه لذا يمكن طرح مجموعة اشكاليات لتبويب العمل :
اولا : ما الدراما ؟
ثانيا : علام ينطوي العمل الدرامي في شعر ابي وجدان ؟
ثالثا : كيف تجلّت النزعة الدرامية في نصوصه ؟
الدراما من بین الفنون التي نالت مكانة وحيزا كبیرا لدى الأدباء والدارسين باعتبارها فن وجنس ادبي كغيره من الفنون والاجناس الادبية بما هي الحالة او سلسلة الاحداث تنطوي على تضارب عنيف مشوّق بين قوى مختلفة ...
وتعد الدراما من حیث معناها الفعل أو السلوك الذي یصدر من الإنسان وقد وظّفها ابو وجدان لمعالجة بعض القضايا وازمات الواقع فكل قصيدة تلفحك بلفحة مأساوية واضحة ويعضد ذلك سمات الانشقاق النفسي والمصيري الذي يكابده ابو وجدان ابدا بعد ابد حين يقول :
"فكثيرا ما يبكي القلب والثغر ضاحك "
فأنا لم أبك ِ .. إلا أن دمعي لن تجفْ
فدموع القهر منها الحق دومــا يغترفْ
لقد عاش الشاعر ابو وجدان دائم الاحتكاك بواقعه ولم يعش في نعومة و نعيم بل إنه لا يزال يعيش بين نار ذاته وطاعون واقعه، وقد مثل الواقعية الجديدة أصدق تمثيل، فالحزن الذي أصابه لم يأت من العدم، وإنما عندما أراد أن يكون مخلصا لذاته و يمنحها ما أرادت من حقوقها عليه، اصطدم بالواقع و بالنظام الخارجي فاراد ان يكون شعره حجّة على عصره يثور ويرفض ويتمرّد وان يخلق البديل فهو يموت اشتياقا الى عالم جديد واحزانه كبيرة ، كثيرة فالمشهد العربي هو بؤرة للاحزان وموطن لقتل الفرح فزمن الشاعر ليس زماناً سرمدياً، انه زمن يرتبط بحالة واقعية محددة يمر بها الوطن العربي تجري فيها أحداث تغتال احلامه وتسرقها ويعيشها ابو وجدان بابعادها الاجتماعية والفكرية والوطنية وبهمومها الانسانية العميقة : في قصيدة الموت بالسكات من ديوانه " اقسمت ان ينتصر الصندوق يتجلى نحيبه و وزفرات روحيه حين يقول :
رفاتي دفنته حيّا ، نقيّا تقيّا
ومنه أطلّ عليكم من الزفرات
وفي كل زفرة حبّ ...قصائد حرب
وناي تشبّع من نغماتي
ولا نغمة فيها الاّ وفيها :
بكاء ...حنين ...وذوق وشوق"
غنائية الوجدان الذاتي هي علاقة حركية متداخلة في البوح ،إذ كلاهما يجمع بين المنطق الخاص للبوح الفردي وبين المنطق العام للبوح الجماعي مادامت الدراما تمثل فضاء هذه الحركة بأنساقها المتداخلة جمالياً، لهذا يعدّ شعر أبو وجدان "فنّ محاكاة الواقع بحرفيّة" ، مايؤكد على عمق التداخل بين الدراما والشعر ..
يغامر ابو وجدان بتعددية الأصوات في متاح جنسه الشعري الدرامي لأن طبيعة الأنا الشعرية في نصّه تنزع نحو ما هو كلّي وليس ما هو جزئي
صوت يرفض الواقع، وينشد الأمل، و صوت يُظهر قدرة على التكيف مع الواقع وإمكانية اجتياز المآسي والتحولات، أما الصوت الثالث فيعيش فشل القيم الروحية، ويحمل ملمحا ضئيلا من الأمل. في حين تكتمل الرؤية وتنغلق تماما في الصوت الرابع في توحّد تام مع الواقع. وهكذا أضحت القصيدة بموجب هذه التعددية الصوتية قصيدة ممسرحة، حيث يحظى كل صوت بمساحة خاصة لإبداء رأيه وفق منظوره الخاص يقول : في قصيدة " المستكرشون بين القصر والقصدير بالصفحة :30
الهم ّ يسكنني وأسكن في همومي
أبدا ولائي لن يكون الى مطامع خسّة
أزلا انا لمطامحي العليا يكون ولائي
انّي حملتُ على ذراعي غايتي الكبرى
ولا هدف لمثلي ان ينال المجد بالاثراء"
الحديث المنفرد / المتفرّد للشعرية الدرامية :
هو حديث من النفس إلى النفس او المناجاة او المونولوج اذ تتوتّر اللغة في هذه المناجاة، وتتكئ على أسلوب الاستفهام الذي يعكس الحيرة والتردد والقلق، ويعبر عن حالة من حالات الاضطراب النفسي والتشوش الفكري وينهج الحوار أسلوباً منطقياً في التفكير من حيث طرح البدائل التي تنبئ عن تردد ابو وجدان وقلقه وعجزه عن الاختيار وفرض الحلول ومناقشة ما قد يلحقها من نتائج، وما يترتب عليها من تبعات يتبدّى المونولوج الداخلي او المناجاة في قصيدته : امتي وضميري خاصة حين يقول :
يا أمتي انا من ثراك أتيت
من روحك استوحيت ما استوحيت
بك امتي امنتُ ...لكن يا ترى ؟
هل كنت اؤمن قبل امر ضميري ؟
هل كنت اؤمن قبل ان نأتي
على عرش سخيف جامد التفكير ؟
هل كنت اؤمن لو تركتِ لي الثرى مهدا
وبت على فراش حرير ؟
واليوم اني رافع لك راية من جوهري
من شعلتي ...ومصيري ..."
انّ الاستلاب الذي يعانيه الواقع موضوع أثير في التجربة الوجدانية بكثافة وتتعدد فيها نماذج الخلاص ، ممهورة بالدعوة إلى الانا والاخر ، وموعودة بالرحابة ، والحرية ، والتحوّل والسلام وكأن الخلاص حق ينتزع انتزاعا في واقع طالما احتقن بالصمت ، والسكون والظلام من ذلك ما يجيء في قوله :
لأنَّ شعره له من العناقات والتداخلات النفسيّة في بواطن النفس الإنسانية ربما أكثر بكثير من العوالم الإبداعية الأخرى، فابو وجدان نجده يكتب نصّاً ربما كانت حيثياته وأفكاره قابعة في اللاشعور الضمني منذ الصغر وموت امه او قتل امه على يد ابيه السلفي المتزمت كما ينعته هو فنراه يتدفّق ويحلّق في عوالم جامحة منبعثة من خصوبة جوانب نفسية متجذِّرة في أعماق نفسه منذ زمنٍ بعيد ولم ولن يستطيع التخلّص منها إلا عبر تدفُّقاتها على نصاعة الورقة بعد مرورها على ساحات الذهن، هذا المرور المتأتّي من الذاكرة البعيدة بين تجاعيد النفس الغافية في ظلال اللاشعور، ولا يمكن لهذه الظلال الخفيّة أن تختفي فلا بدّ لها أن تظهر في فترة ما عبر حالات إبداعيّة : يقول : في قصيدة الموت بالسكات من ديونه " اية الموت والحياة :
وحين ألوح لكم لن تروني
ولكن ترون صفاتي
فان لم تصرّوا على ان تروني قصيدا
فطيفي لكم سيلوح من اللفتات
وصوتي سيبدو شجيّا
ومنّي اكاد اطلّ عليكم من النبرات "
من هنا؛ فإن تجربة الشاعر ابو وجدان هي تجربة متمردة شكلاً ومنحى وأسلوباً ومعنىً لها خصوصيتها المميزة من حيث تجذرها على "فانتازيا "المشاهد الشعرية وأسلوب تغريب اللغة، وتبئير مدلولاتها في اتجاه بؤري محدد دون محاولة تشتيت الرؤية،وتفتيت مظاهر اتساق، وتناغم،وتوازن الصور إلا ما ندر ، ومراكمة الحروف المتشظية، والفراغات والنقط وعلامات الترقيم، وكأن الحياة -بالنسبة له- متقلبة،عابثة، كعبثه بفضاءات قصائده لدرجة تشبه إلى حدّ ما لعبة النرد، من خلال صخبها النفسي، وتقلباتها الكثيرة،وتلاعبها بإيقاع الزمن والوجود،تلاعباً يعتمد الحظّ والصدفة، والمباغتة، والمفاجأة،والمناورة؛ ولعل ما يميز تجربة الشاعر ابو وجدان تفعيلها للإيقاع العبثي الفوضوي الصاخب لنرى هنا قوله من قصيدته حديث عن مجد الفعل لاحظ معي طريقة الكتابة ووعلاماتها : يقول
حديث عن مجد الفعل
في حبّ تونس عجّلوا
فالحب لا يتأجّلو
أجّلته فندمتُ تقتلني الندامة
لم اقل لا تقتلو ..قاتلتها
قُتِلتْ يدي لكنَّ قلبي
لا يزال يجلجلو
جلجل أقلبي واستبدَّ
انا اقول وانت دوما تفعلووو
.....
أبو وجدان يريد من اللغة أن تعرّي اللغة ذاتها وأن تعرّي الموقف المأزوم الذي يعيشه إنساننا المعاصر من خلال انعكاس ذلك على اللغة،وعلى مدارج التشكيل،ومنعرجات المعنى، وتعدّد المداليل وانعكاسه على عملية التأويل لنخلص الى تقنية الحوار وارتباطها الوثيق بالحدث الدرامي في شعرية ابي وجدان
تقنية الحوار وفاعليتها في تحفيز شعريّة القصيدة:
تتعدد الأصوات الدرامية المتحاورة في البنية النصية عند " شرف " خاصة عندما يتغلغل العنصر الدرامي في صميم النص الشعري، فيستكشف خصائصه الدقيقة التي تذهب في كل اتجاه ولاتثبت على فكرة واحدة، وإنما تخضع لجملة من الأفكار المتناقضة التي تتحرك في كل أرجاء النص بهدف إغنائه واستكناه مساربه الخفية والتحاور لديه متنوع متعدد مكثف مع الانا مع الاخر مع الحياة مع الكلمات يتحاور معه في قصيدة " الغفران " :
"أبكيك ام أبكي الانا ؟
نحيا بلا جسد فما اجسادنا ؟
الاّ شفاه خلّقت لتقول لا
قالت : " نعم بالقهر اجبرها الظلام
مهلا هشام ففي كلامي غصة
واراك رغم الداء يعصرك ابتسام
لمّا تزل متبسّما رغم العنا
لتقول : " بالميلاد يبتدئ الختام "
خُتم النهار بنومنا وحياتنا هي يقظة صغرى و يعقبها المنام
نم هادئا يا شاعرا أزماته ستظلّ في الوجدان تصرخ لا تنام
لتقول لي : "يا صادقا والحرف لا ينفكّ صدقا
كيف يُرهبك اتهام ؟؟"
هذه القصائد ينزع فيها الشاعر إلى المشاهد الوصفية المتحركة التي ترصد الصراع الداخلي والتوتر النفسي، لدرجة تأتي المشاهد ذات خصوبة في المكاشفة، والإثارة والمتعة التصويرية ليقول للحب ويقاسمه التأزم :
أيّها الحب لماذا في الأغاني
نجمك احتل سماوات المعاني ؟
رغم هذا شرس أنت أناني
منذ أن جئتً إلى الدنيا أعاني
منك مذ كنت بقلبي كالأماني
كحنين غامض بل كالحنان
مثل طيف لاح لي بعض الثواني
ثم ولّى .. بل تجلىّ كالدخـان
ودنــا مـنـه خيالي فاحتواني"
لقد وضع الشاعر شرف نموذجا للشعر و الشاعر, وطبقھما أمانة في نتاجه الشعري فالشاعر برأي ابي وجدان ھو ذلك المتعبد الذي یدخل ھیكلا، فیجثو باكیا فرحا نادبا مھللا مناجیا مصغیا,متسائلا محتارا مطمئا ، ساكنا ... ثم یخرج و بین شفتیه و لسانه أسماء, وحروف, واستدعاءات جدیدة لأشكال حياته التي تتجدد كل یوم ... ولعل ما ينبغي الإشارة إليه أن التفاعل النصّي الإشاري-في قصائد ابي وجدان - ينبني على مرجعية نصية إشارية فاعلة في التقاط الإشارات اللامعة وتوظيفها في سياق رؤيوي حداثوي جدليّ...ديالكتي يستحثّ القارئ إلى ملاحظة علائقها وإدراك كنهها بالارتكاز على القرائن الإشارية المرجعية يقول : في قصيدة " والوجدان ليس له انعدام " صفحة " 69
"لكنّني بالرغم من عنت القضا فأنا لها
والشعر في شفتي مدام
فاذا تحطّم كأسها الاولى ففي كل المعارك للزجاج حُطام
انّي غرست بوجدها ريحانة ها غصنها الثاني يباغته انقسام
ريحانة الأدب الجميل تيتّمت غصنان منها قد اصابهما انهدام
لكنها لم تخل من تغريدة ابكى الحمام بها فجاوبه اليمام
.......
يا أمتّي انتصري على شبح الرّدى
ها انت والوجدان ما لكما انعدام "
وبما أن الشاعر المبدع ابن ركيزة تفاعلية إبداعية مؤثرة تملك خصوصية الاستعمال والتوظيف الشاعري المؤثر باساليبها المختلفة فإن درجة شعريته ترقى برقي هذه التفاعلات النسقية،ومفرزاتها الإبداعية ضمن القصيدة لتحقق أقصى منتوج دلالي إيحائي متكامل، على شاكلة المقطع الشعري التالي :
قلت : ـ عفوا "
يارفيق الدرب فالدرب جنونْ
نحن إن لم نمشه قد لا يكونْ
فهو كالمستقبل المعشوق لكن لا يجيءْ
إنني أعشقكم فيه وبعضي مشرق فيكم
وبعضي ربما غيرُ مضيءْ
إنه كالعاشق المجنون ، والعشق جنونْ
والذي قد لامني فيه ذكيٌّ وغـبي
قد ورثت العشق عن أميَ أحيانا ..
وحينا عن أبي
والتي قد أعلنتْ عنه انفتاحٌ هَـمَّ بي
وأنا أخفـيته وحيا
هل هو الله الذي أوحى إلى كل نبي؟
إنه مستقبل قد جاءني
لكن أنا مستقبل قد لا يجي
فاسمحوا لي ..
يا أحبائي إذا باغتني الدمع الأبي
فالذي لم يبك إن ضيع من عمره يوما
دون عشق
فهو ـ حاشاكم ـ غبيٌّ وبهيمٌ وغبي
. تونس 24 \ 10 \ 2017
شعر ابو وجدان ركيزته الأساس اللغة وتلفّظاته الصادمة و أبرز ما يمثّل سموقه الفنّي تلاعبه بالنسق اللغوي وفق مقتضيات الرؤية وزخم التجربة،ومفرزاتها، وتفاعلاتها الوجودية المحتدمة بما تملكه من وعي، وإدراك،وحساسية جمالية على نحو ما يشفّه لنا المقطع التالي يقول :
من حقي أن أفضح أن القرآن أسمِّيهِ : ـ حقيقةَ عشقي
من حقّي أن أفضح ما بين الخلق وبين مخاليق الرّقِّ
من حقي أن أفضح أيضا ما بين الحرق وبين الشوقِ
من حقي أن افضح أن الشمس المنحازة يوميًّا للحرقِ
ما إن تفتحْ عينيها حتّى تحرق للغرب من الشرقِ
فهلِ الشمسُ إذن مخطئة هي أيضا يا ربّ الخلقِ ؟؟
تونس في 20/7/2013
إننا نلحظ أن كل لفظة تملك مرجعيتها،ومقتضاها اللغوي،ومنطوقها الإيحائي الفاعل عبر روابط بليغة تملك مؤثراتها الفاعلة ، وبما أن الشعر ليس بأداته ووسائله فحسب، وإنما بوسيطه الإبداعي وشعوره الداخلي المركب ورؤاه الوجودية المعقدة فإن الصورة تشكل العنصر الأهم في تحقيق بؤرة التفاعل الجمالي المركب بين ابي وجدان والعالم .
ان خاصية التفاعل الجدلي / الديالكتيكي في شعر الاستاذ الصادق شرف خاصية بؤرية مركزية تستقطب إليها المؤثرات الأخرى بوصفها الطاقة الدينامية التي تحرك عجلة النص،باتجاهات محددة وغير محددة وبنظم علائقية فاعلة؛ وهذه الخاصية لا نبالغ إذا قلنا فيها : لقد أمدت قصائده بفيض هائل من الإيحاءات، والدلالات، والتأويلات المنفتحة، لتؤكد قصائده –بشكل عام- فعل غوايتها البليغ؛ومنظوراتها الإبداعية المركزة؛من حيث القوة،والفاعلية،والغلبة الإيحائية؛ الأمر الذي يجعلها محط تطورٍ، وتنامٍ، وابتكار في فيضها الرؤيوي،وإغواءها الجمالي الآسر ....
إن شعر الاستاذ الصادق شرف شعر حداثي، فقصائده تشعل الأسئلة، وتصارع النقيض، وتوحي بمغامرة الشاعر الذي لا يكفّ عن استنهاض الأمل، بيده المرتعشة التي تكتب وهي تنزّ ألمًا
والكتابة، حسب " محمد بنيس"، لا تكتب عن شيء، بل تنكتب مع شيء هي أثره، "في انفلات الحدود بين الداخل والخارج، بين الأدب والفكر، بين الشعر والنثر، بين السواد والبياض، تبحث الكتابة عن مقامها، إنها شفيع التجربة التي تنتهي لتبدأ، نازعة عنها كل نبويّة أو غنائية
حلزونية تكون ويتيمة تبقى" ينسجها ابو وجدان من أعصاب الروح وجُنّة القلب فهو يماثل " نيتشة " بقوّته وصموده أمام أرزاء الحياة، وقسوة القدر
الحركة والفعل ، الفعل الشامل والفاعل للشاعر الصادق شرف في بحثه الذي لا يفتر عن القصيدة والذات والعالم، يجعله يعثر على ما سعى إليه في وضعية القيم ذاتها، وفي صدارتها قيمتا الحرية والحب للحياة رغم ما يسكنها من حزن وما تعجنها من مرارة، وفجأة يظهر البرق، فجأة ينفتح الشعر على حدود الخطر. وفي الإقامة على هذه الحدود يصبح البحث سؤالًا، ويكشف الشعر عن ضرورته فيقوّم الخطأ، ويحرّك السماء والأرض، والأرواح والآلهة ويمنح صوتا لريح الفضيلة الانسانية المحتضرة :
" قد نلتقي عند اختلاف الوجهتين
وتشدّ انت على يدي بالراحتين
وتقول لي : انّي احبّك مرّتين
سأجيبُ : " اسكت فالسكوت هو النقي "
ها أنّنا من أجل تونس نلتقي "
حياكة اللحظة الإنسانية الشاعرة تتخذ من قوة العاطفة جسرًا مختصرًا تقيم عليه علاقات القصيدة المرتكزة على ما يشبه "الحبكة الشعرية الوجدانية "التي تطرق أعمق الأفكار بحسّ تمتزج فيه "الأنا" الشاعرة بالطبيعة " الذات " فتجسد البعد الديالكتي في صور تختزن في عمقها اللاّ محدود مساحات لغويّة شاسعة التأويل، وفضاء للمتخيل الشعر وهذا ما يَهبُ شعر "ابو وجدان " فرادة وتميزا .
كتبه مكتوبة بعاطفة جياشة ، جاءت لوحاته الشعرية زاخرة بالحركة والحيوية والألوان المعبّرة عمّا يختلج في وجدانه من قلق وألم وأمل وحبّ، شعره قادر على أخذنا في رحلات ممتعة إلى أعماق النّفس، ومتاهات الخيال، فله تأثير الخمرة التي تجعل السعيد حزينًا والحزين سعيدًا
تسكُن الرّيح أمواج وصلِه وتمخرُ زوارقه لججَ الأحاسيس، لكنّها أبدًا لا تكنُّ ولا تسكن ولا تستكين : فهو المتحدي ...يتحدى الدخان ...يتحدى الاكسيجان حين يقول :
أراني أشيّدُ ثم اهدم ثم اعيد البناء
ويشرب ذهني نجوم السماء
وتفرغ عيني امتداد الفضاء
فلا ارض تركع لي ولا الماء ماء
ولا أتنفس غير الدخان
دخانا...دخانا...
أدوخه ويدوخني هيدروجانا
وأوقظه ثم يوقظني مهرجانا..."
انّ هذا الشّعر الواضح البسيط العميق، هو ما سيبقى ممّا يكتب الكاتبون ولا يأتي بمثل هذا إلاّ من كانت "زوّادتهم" الفنّيّة والفكريّة "ماكنة فهو صادق حياتيًّا وفنيًّا، فالصّدق موجود لديه في دائرة التذويت والتذويب في الاخر ...حياة وانسانا وروحا وفكرا.. فقد ينجح الكثيرون من المبدعين في تقديم صدقا فنيًّا وليس صدقًا حياتيًّا.. فالموقف يجب أن ينعكس في الأقوال والأفعال وهو المردد ابدا :
الكلام لا يغير سقف العالم الا اذا تحول الى فعل معرفي "
ويتأكد لنا هذا المعنى العميق في كتابه " أتحدى العشاق " الصفحة الثالثة والستين حين يقرّ ولا يستقر :
"نعم أتحدّى الذهول
وأفعل أكثر ممّا أقول
ألا ....انني لست من شعراء القدامى
ولست من الشعراء الندامى
ولا شعراء الخزامى
ولست من الشعراء الجدد
ولكنّني عاشق الفعل
بالفعل انّي أنا المتّحد "
الاغتراب النفسي /الفكري /الثقافي في نصوص أبي وجدان
يبقى الاغتراب ذلك الأفق الوجودي الذي يتطلع من خلاله المبدع إلى التغيير،والتعبير عنه بما يمتلك من حساسية، وحرقة، وتأمل ومن أجل هذا، يختلف كل مبدع عن الآخر، في شكل اغترابه، وقوته، وفاعلية تأثيره وما من شك في أن المبدع ابا وجدان هو الشاعر المغترب برؤاه، وأفكاره، وطموحاته، وأحاسيسه الوجودية و طقوسه الخاصة، وأحاسيسه المشبعة أسىً وغربة، ووعياً، وإدراكاً، وتوتراً، واحتراقاً، وارادة وفعلا ورفضا فقد جعل الاغتراب فناً رؤيوياً يشفّ - من خلاله- عن الكثير من البواطن الشعورية،والاشعورية والآفاق النفسية المحتدمة،والعوالم البكر اللّا مرتادة، وهذا هو المبدع المؤسس أو هم المبدع الخالد الذي أسهم في ركب الرقي الحضاري والثقافي لأمته وكانت لأعماله أثراً فنياً راقياً لا يمحي ولا يزول ومن هنا يؤكد الناقد "حسين جمعة"
" أنه أياً كان مفهوم الاغتراب في النفس فهو ناتج عن انعطاف قلق يعاني منه المغترب تجاه كل مألوف، أو تجاه الأزمات،فيصاب بالسأم،والاضطراب،والتوتر، ويقل إنتاجه،لذا يقال: اغترب تتجدد،وهنا يدخل الاغتراب في باب المشيئة. وهذا يعني أن اغتراب المرء عن(المكان- الوطن) يعد مفارقة نفسية واجتماعية،ومكانية، وزمانية من أجل إعادة الذات إلى جوهرها الطبيعي،ما يربط هذا كلّه بالقلق الوجودي" يقول الشاعر متحديا :في ديوانه اتحدى العشاق بالصفحة الواحدة والثمانين :
أتحدى الماء من الكأس الى البحر
الى ان يصبح طوفانا
سأطأطئ للنبع يدي
وأرفع رأسي عطشانا
ان كان الماء البارد يقتل فيَّ الانسانا
فأنا الثابت في انسانيتي
وأنا المتغيّر وجدانا
وأنا أرفضُني ...لو أصبحتُ كما كنتُ
وأرفض وجداني أن يصبح ما كان
أتحدّى الماء ...اجدّفُ ضدّ التيار
فانا لو سايرتُ التيّار ستجرفني
لمصبّ القاذورات الانهار "
تتجلّى هنا صميم المعاناة الذاتية، ومفارقتها للجوهر الطبيعي وهذا يعني أن الاغتراب في شعر ابي وجدان نفسي فكري ذاتي ،ثم غدا اجتماعي ، ثقافي اقتصادي يستند إلى التنافر والديالكتية والجدلية الفاعلة بين الذات والآخر،والطبيعة،والنشاط،والعمل والفعل والتفاعل والتاثير والتاثر ،والزمان، والمكان و.. ما جعلها ظاهرة مركبة ومعقدة تعبر عن الانسلاخ والاستلاب،وضعف القدرة على التكيف تارة، وتعبر عن الغربة والتفرد والتميز والاختلاف تارة أخرى بما يدلّل على نظرته الجديدة، البديلة ومنظوره الرؤيوي المغاير أو المخاتل، وهذا ما أشار إليه بقوله متحدّيا قمّة الدنّيا من نفس الديوان بالصفحة السابعة والثلاثين :
"وتوحّدتُ بذاتي لاحما من هفواتي فجواتي
فاذا كلّ حبيبات رمالي اجتمعت واتحدت صاغت جبالي
فأنا الان على القمّة والسفح سوايَ
ليس لي اعداء لكن لي عدايَ
وعدايَ اختفلوا عني وعنهم اختلف
ولذا راسي لهم صار الهدف
ليس هذا صدفة بلهاء اني عشتُ استهزئ من كلّ الصدف
كل من صادفني صادفته طرفا كنت له لولاي ما كان الطرف"
وبتقديرنا: إنّ غنى التجربة الشعريّة لدى أبي وجدان وخصوبة مردودها وراء شعرية اغترابها، وتنوّع أشكالها ومسبباتها، وهنا نجد في شعره تنوّعاً في مرجعيات قصائده الثقافية وبناها التشكيليّة ورؤاها الفكريّة ومنظوراتها الوجوديّة العميقة وهذا يعني أنّ اغترابه روحي عميق يصل إلى جوهر الرؤية وبرد اليقين لينقل رؤيته،وتوقه الروحي ،واحتراقه الداخلي المشبوب ولهاً وصبابة من النبض الشعوري إلى الجسد اللغوي، و لتكون تجربته نابعة من الصميم أو الجوهر من الأنا الى الاخر من الاحتراق الداخلي إلى الجسد اللغوي إلى الشكل البصري، الذّي تتّخذه القصيدة يقول : "
لأفهم فهما عميقا حديث خطايا
لأسمع ما لا يقول سوايَا
نعم أتحدّى الفضول وأعشق فعلا يدوم ويخلد حين أزول
ولكن لماذا أزول وبدء الصعود خلاص النزول ؟"
انّ المبدع- كائناً من كان- هو ابن ثقافته،وهو الترجمان عن لسان ثقافة مجتمعه،والناطق الرسمي بمؤثراتها،وخزائنها المعرفية،وما من شكّ في أن الشعر هو الثمرة اليانعة التي تقطفها الحضارات الإنسانية في تاريخ وجودها، وتدوين حضارتها؛ومن أجل هذا، فإن تأثر ابو وجدان بثقافة أمته هو تأثر نابع من وسطه الاجتماعي، وحيّزه الوجودي،ولهذا فقد أسهم ويسهم إسهاماً فعّالاً في دفع عجلة التطّور الإنساني بوصفه "الدينامو" المحرّك في تطوير ثقافتها وميراثها اللغوي فيخرجها من رمزيتها او من ماضويتها ليدخلها في صميم الحالة الشعرية موضوعا وجمالا وفكرا وهدفا وفعلا فهو" الذي يتحدى ويقول الذي لا يقال ولو يتردّى "يقول من نفس الديوان : أتحدى العشاق :
أنا أتحدّى ...أقول الذي لا يقال ولو اتردى
فقولوا الذي لا يقال معي
فاني بكم اتحدى الذي لا يعي
والذي لا يحبّ نشيج الحياة العظيمة
وبين نشيد الحياة وبيني علاقة حب حميمة "
لغة النص الشعري عند الاستاذ "شرف" عميقة التخفّي وشديدة الكثافة.إنها مفعمة بالانزياحات والمراوغة،وهي حين تجسد موضوعها تمعن في الالتفاف حوله، ومشاكسته،وتلوين فجواته بالحيرة أو الضوء، أو التردد،ولا يتوقف القارئ عند هذا المستوى من لغة النص، بل يذهب إلى ما يجسد كتلته الماثلة على الورق،حوار البياض والسواد، بعثرة كلماته ،تشظي الرؤية ، مراوغة المفاهيم والمدلولات ، كسر المألوف فهو اللاهث دوما وراء الفعل وراء الحياة وراء الكمال وال?

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق