..................
عبده داود
...............
الرسام مايكل أنجلو
قصة قصيرة
أيار 2021
أحد المهندسين سأل زوجته: لماذا تعيدين طلاء لوحتك بعد أن عملتي فيها جاهدة اياماً طويلة؟
أجابت الزوجة: اللوحة لم تعجبني، لم أشعر بأنني توصلت للبعد الذي اريده، كما ان الوانها لم تنساب بنعومة داخل عروقي، أريدها لوحة تنطق، تعبر عن داخلي الملتهب بحب الحقيقة والحرية والجمال، تجعلني أعيش حياتي. ابتهاجا واحساساً بالروعة والكمال، عملا يرضيني، يبهرني ويعيش بداخلي خالداً، يبهر طموحاتي، لوحتي يجب أن تصرخ بصمتها لتقول الحقيقة، تنصر العدالة، وتنصر الحب، وتنقل للجميع حب الحياة.
قال الزوج: آه منكم يا معشر الفنانين، تمتطون الشهب، تحلقون ولا تتوقفون عند الحدود، ولا ترضون عن اعمالكم التي تصنعونها، تخترقون السحاب، وتحاكون القمر، وتراقصون النجوم...
بينما نحن المهندسين، سجناء الأرقام والقوانين... تحكمنا اللوغاريتمات، والأسس، والقوالب الحسابية الجامدة... التي صنعتها التجارب عبر التاريخ، ووضعتها ضمن أطر فولاذية، لا يمكن خرقها.
أما في الفن فالأمور مختلفة. تصنعون وتبدعون كما أنتم ترغبون، وتزينون الحياة بالألوان التي تبهجكم وترضيكم...
ردت الزوجة: الرسامون الحقيقيون هم رهينة الإبداع، يحكمهم قانون الجمال...
يا حبيبي أظنك تذكر كلمات الرسام مايكل انجلوا بعدما كلفه بابا روما يوليوس الثاني في القرن السادس عشر برسم ايقونات بكنيسة سيستين في الفاتيكان، كان يرسم تارة هنا، وتارة هناك، ثم يذهب بنهاية النهار إلى الحانة تعيسا، غير راض عن الذي فعله خلال يومه، أحياناُ يخبط رأسه بالحائط، لأن روح الابداع تخونه، ووحدة العمل بالشكل والمضمون لا تحضراه...
بات حزيناَ غير راض عن الأيقونات التي كان يرسمها... كانت مجرد رسومات يلصقها على الجدران والأعمدة، لكنها رسومات فاترة، خالية من الروح المسيحية...يجب أن تكون الرسومات حارة ناطقة تحكي القصة كاملة...
م يكن يعرف ما الذي يريد ان يرسمه، ولم يكن راضيا البتة عن الذي رسمه...
ذلك المساء، ذهب للحانة كعادته وهو متعب الفكر، منهك الجسد. ارتمى على أحد الكراسي، وطلب من الساقي أن يحضر له نبيذاً يروي به جوفه الجاف. جاء الساقي حاملا كأس النبيذ الخشبي، وقدمه للرسام...
أخذ مايكل انجلو الكاس واستنشقه، فاستغرب رائحته، ثم تذوقه فلم يرق له. نظر إلى الساقي باستهجان، مستنكراً ومعاتباً وقال له: نبيذك حامض يا رجل لا يشرب... أخذ الساقي كاس النبيذ الذي سحبه من البرميل الخشبي الذي فتحه للتو، وتذوقه وقال للرسام: الحق معك يا سيدي...أنا آسف، وقال: اذا كان نبيذك حامضاً يجب أن تلقي به، وذهب إلى برميل الخمر الخشبي الكبير وسكبه على الأرض وهو يردد: إذا كان نبيذك حامضاً عليك أن تلقي به...
لمعت كلمات الساقي في رأس الرسام كالبرق، وأخذ يردد:
(إذا كان نبيذك حامضاً عليك أن تلقي به)...
غادر انجلو المقهى، وذهب راكضا إلى كنيسة سيستين، نظر إلى لوحاته التي رسمها، وقال إذا كان نبيذك حامضا عليك أن تلقي به... أحضر براميل الألوان الملونة جميعها ومزجها مع بعضها، وأخذ يقذفها على اللوحات، حتى اتلف كل الذي رسمه، وفر هاربا...
جن جنون البابا، وأرسل الشرطة للبحث عن الرسام...
هرب مايكل أنجلو متنكرا، متخفيا، وعمل في مقالع الرخام في الجبال...
ذات مساء ربيعي دافئ، صعد مايكل إلى أعلى الجبل ليتأمل البحر والطبيعة والغروب... راقه منظر الشمس التي كانت تتسرب من نوافذ الغيوم، وتلونها بالأشعة الذهبية والحمراء... اشرقت فكرة الرسومات، في فكر الرسام، وكانت لحظة الابداع... وتشكلت رؤية خلق آدم والحياة في مخيلة الفنان، وتبلورت فكرة الأيقونات المقدسة في ذهنه...
عاد راكضاً إلى الكنيسة. استقبله البابا بغضب مجنون، وعتاب شديد، وبسعادة لا توصف...
قال مايكل: الآن يا سيدي سنشرب خمراً جيداً...
نصب السقائل والسلالم وبدأ رسم سقف الكنيسة، وهو مستلقيا على ظهره مدة أربع سنوات1508-1512 فوق خشب السقائل المرتفعة حتى أتم رسم لوحات الخليقة الرائعة، التي لا تزال إلى يومنا هذا قمة الأيقونات الكنسية، وقبلة الرسامين. وإحدى أساطير الجمال في العالم...وبعدها قدم للكنيسة أعمال فذة، منها في النحت تمثال موسى الذي كاد أن ينطق...
كتب القصة: عبده داود
سورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق