الجمعة، 26 فبراير 2021

 ................

رشيد (فوزي) مصباح

..............




رسالة من داخل السّجن
(رواية قيد الإنجاز)
ــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: رشيد (فوزي) مصباح
ــــــــــــــــــــــــ
الجزء الرّابع
(2)
ليس المرض وحده من أنهك والدتي ولكن كلام النّاس، وخاصة الأقارب منهم، الذين لم يرحمُوها.
بسبب الجهل والاحقاد صار المرض عندنا عيبًا من العيوب، و تابوًا من الطابوهات، ومصدرا للتشفّي ومجلبة للسّخرية. والمصيبة الكبيرة حين تجد من بين هؤلاء الحاقدين الشّامتين أقرباء من الدرجة الأولى والثانية.
الوالدة، أمّي الكريمة حنينة " بالزّاف"*، لكنها لا تمنّ. لستُ هنا بصدد تزكيتها، فكل قريب أو بعيد يعرف هذه الخصال التي تجذّرتْ* فيها؛ تراها تقتصد في كل شيء، وتخبّئ الشّيء تحرم نفسها منه، لكنها لحظة سماعها صوت الشحّاذ خلف الباب ينادي: " معروف ربّي يا لحباب"، تُسارع إلى إخراج كل ما كانت تخفيه وتحافظ عليه.
الزّوبعة التي أُثيرت حولي غمّتني وعمَتْني وحتى أنها لم تسمح لي بالاعتناء بأمّي، كما ينبغي، والتي قرّرت الانفصال عن أبي لتسكن وحدها، بعدما أخذتُ الأمر على عاتقي ووفّرتُ لها سكنا محترما.
لن نعرف قيمة الوالديْنِ إلا بعد افتقادهما!
ليتهما يعودان أُقبّل الأرض تحت قدميْهِما!
ليس هناك حبٌّ حقيقيٌّ سوى حبُّ الوالدين. وأمّا الحب الذي يتغنّى به المراهقون في هذه الأيام هو مجرد إعجاب لا غير، ورغبة في ممارسة الجنس لا اقل ولا اكثر.
"وهل يوجد حُبٌّ حقيقيُّ في هذه الأيام؟ بالمفهوم الذي يتغنّى به بعض من الفنّانين والفنّانات لكسب الشهرة والمال؟ أو كما في الأفلام والمسلسلات المدبلجة، و بعض الصفحات الفيسبوكيّة و المواقع الإفتراضية؟.
كتب أحد الأدباء ذات يوم يقول: " هل أستطيع القول إنّ الإنسان الذي يقف في شُبّاكه لمشاهدة المارّة ، لحظة مروري من هناك ، واقفٌ من أجل مشاهدتي ؟ كلاّ : لأنّه لا يُفكّر فيَّ بشكلٍ خاصٍّ . لكن الّذي يُحبُّ أحدًا بسبب جماله ، هل يُحبُّه فعلاً ؟ كلاّ ، لأنّ مرض الجدري الذي يقتُل الجمالَ دون قتلِ الشّخصِ ، يحولُ دون هذا الحبِّ"*.
لكن المرض الذي ألمّ بوالدتي جعل أطبّاء المستشفيات القريبة يقفون عاجزين أمامه. فقرّروا إرسالها إلى مستشفى "مصطفى باشا" بالجزائر العاصمة. أين واصلت رحلاتها المكّوكية في العلاج بقطع مئات الكيلومترات ذهابا وأيابا. وتزامن موعد زيارتها الأخير ولزومها السّرير بالمستشفى العاصمي مع دخولي السّجن بمدينة سدراتة، وكانت في مرحلة متقدّمة من المرض، ولستُ أدري كيف وصل إليها الخبر، فتشجّعتْ، وغادرتْ المستشفى دون إذن الطّبيب، وخرجتْ تتهادى من الوهن والمرض، وركبتْ سيارة، وتكبّدت عناء البعد والسفر ومشقّة الطريق، وجاءت إلى السّجن في غير مواعيد الزيارة، وسمحوا لها برؤيتي، وحين وقعتْ عيناها، المخضرّتان، المخضّبتان بلون الدّاء القاتل، على عينيّ، أجهشتْ بالبكاء وقالت لي بصوت مبحوح: " ما حبّوش اخلّوني ندخل عندك حبّيت انبوسك قبل ما نموت" *.
وتذكّرتُ حينها أني لستُ بأفضل حال من زملائي الآخرين؛ "ربّوح" ولد لغزالة الذي وجد في أغاني الشعبي ملاذا لنسيان الغربة و البعد عن والدته العجوز البائسة، و"عبدالله" الذي لا تكاد عيناه تفارقان المصحف الشريف حتى ينسى قليلا حالته مع تشرّد أسرته بكاملها، وتذكّرتُ في تلك اللّحظة الأليمة"علّوش"، ورحتُ أُكرّر على مسامع والدتي نفس الكلام الذي قاله "علّوش" لوالدته حين زارته آخر مرّة: "كل شيء في السّجن بالمجّان إلى آخر الكلام"(.../...) وما زلتُ بها أعدّد محاسن السّجن حتّى أزلتُ ما بها من لوعة وحرقة، وحتّى غلبها الضّحك، وعندها لم أتمالك بدوري ودمعتْ عيناي.
فلم تتمالكْ المرحومة وقامتْ إليّ تعاتبني، وقالتْ لي بصوت أجش: "حسَبْتَكْ راجل لكنّك تبكي كِما النّسا" *
رحم الله والدتي وطيّب ثراها فقد كانت " مُولاتْ نِيفْ" *
.ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ ـــ
* بالزّاف: كثيرا جدّا
*(تَجَذَّر) على الفعل (تَأَصَّل) فكلاهما على وزن "تَفَعَّلَ"
* كلام مكرّر ذكرته في إحدى مقالاتي.
* لم يسمحوا لي بالدخول عندك كي أقبّلك لآخر مرّة قبل أن أموت.
* حسبتُك رجلا لكنّك تبكي مثل النّساء.
* مُولاتْ نِيفْ: صاحبة عزّة وأنفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق